العلم والذهنيات العامة في تاريخ اليمن الوسيط من خلال كتاب ” العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية” لعلي بن الحسن الخزرجي.
أ.د. أحمد السري
أ.د. أحمد السري
- ملخص:
يعالج هذا البحث العلاقة بين الازدهار العلمي في زمن الدولة الرسولية، وسيادة ذهنية عامة (خرافية) كما ظهرت في سير علماء الدين وعند العامة. بدأ البحث أولا باستعراض الصورة العلمية التي بان ازدهارها في أنشطة علمية مختلفة مثل بناء المدارس، والتدريس وفي تطور التأليف في موضوعات متعددة، تبع ذلك استعراض لنماذج من صور الذهنيات العامة (الخرافات) التي ذكرت في سير العلماء، وعند العامة في كتاب الخزرجي” العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية”. ثم خُتم البحث بتحليل واف أبرز المواقف المناوئة للعلوم التطبيقية والفلسفة، وسيادة شكل من أشكال العلم الشرعي تم تواتره دون مراجعات نقدية، وهو ما أدى إلى ظهور روايات قديمة، جديدة ذات طابع خرافي متصلة بسير العلماء ومشاعة بين العامة. وقد أظهر التحليل أن شيوع الخرافات تلك كانت لها وظائف اجتماعية جلبت المنافع لبعض من زعم أن بمقدوره من خلال طلاسم شرعية دفع شرور القوى الخفية التي تشيع أخبارها ويصدقها الناس. وختم التحليل بإبراز فوائد العلم التطبيقي والفلسفة في تحرير العقول من أوهام الخرافة التي لا تزال ممتدة إلى اليوم.
Knowledge and Superstitions in Medieval Yemen History:
Based on The Alḫazraji’s Book ” The Pearly Necklaces in The History of The Rasulids State.
- Abstract
This research deals with the relationship between the knowledge flourishing in the time of the Rasulids state and the prevailing of superstitious mentality as it appeared among the religious scholars and the public in the same time. The research begins with presenting the flourishing knowledge image that emerged in various activities such as such as Building of schools, teaching and composition of books in various subjects. The research presents thereafter selective images of superstitions mentioned in the biographies of religious scholars and among the public as depicted by Alḫazraji in his book “History of the Rasuilds State “.
The research ended with a thorough analysis which revealed the opposing attitudes to applied, philosophical sciences. it also revealed how a form of religious knowledge prevailed and had been repeating without critical reviews, which led to the emergence of an old and new traditions of a mythological nature related to the religious figures themselves and were popular among the public. The analysis showed how superstitions spread and believed by people were used to bring benefits to those alleged that they can protect people from the evils of hidden jinn using religious talismans.. The analysis concluded by highlighting the benefits of applied science and philosophy in liberating minds from the illusions of superstitions which still continuous to the very day.
- مدخل:
يعد المؤرخ علي بن الحسن الخزرجي الزبيدي (732 – 812هـ)، أبرز مؤرخي الدولة الرسولية. وللخزرجي مجموعة من الكتب هي: “طراز أعلام الزمن في طبقات أعيان اليمن”، و “العسجد المسبوك في ذكر من ولي اليمن من الملوك”، ثم كتاب “العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية”، قيد الدرس([1])، وهو من أهم الكتب المؤلفة في عصر الدولة الرسولية، لما حواه من أخبار سياسية وعلمية واجتماعية واقتصادية. والكتاب حولي الترتيب، حيث يبدأ الخزرجي بذكر السنة الهجرية ثم يروي ما حصل فيها من أحداث متنوعة متصلة بالدولة الرسولية، فإذا فرغ من ذلك بدأ بذكر من توفي في تلك السنة من فقهاء وأدباء وشيوخ علم، وقدَّم لهم سيرا مختصرة، تبين أدوارهم الاجتماعية ومواقعهم العلمية وما حصل لبعضهم من أحوال استحقت التسجيل.
ومن مجموع الأخبار التي أوردها الخزرجي متصلة بالفقهاء والعلماء والأدباء، ثم ما ذكره من حوادث غريبة وقعت، أو حرائق كبرى نشبت، أو مجاعات حدثت، يمكن الحصول على صورة اجتماعية للفترة التي أرخ لها الخزرجي والتي تقع بين بدايات الدولة الرسولية 622 هـ، وحتى نهاية عهد الملك الأشرف الرسولي المتوفي عام 803 هـ.
لم يكن الخزرجي شاهد عصر على كل ما روى في كتابه، فهو من سكان القرن الثامن الهجري وأوائل التاسع، فمولده كان سنة 732 هـ وتوفي عام 812هـ، وبناء عليه يكون الخزرجي قد عاش ثمانين عاما. وعطفا على هذه التواريخ يمكن القول إنه عاصر وأرخ لأحداث أكثر من نصف قرن في حياة الدولة الرسولية. أما ما رواه من أخبار للفترة التي سبقت معاصرته فقد اعتمد فيها على غيره من الكُتَّاب وفي مقدمتهم (بهاء الدين الجندي) المتوفّى (732هـ)، وكتابه: ” السلوك في طبقات العلماء والملوك”، وهو يشير إلى ذلك في معظم ما نقل عنه من أخبار. ولذلك فإن ما سنستخلصه هنا من صورة اجتماعية للقرن السابع الهجري ومن بينها العلم والذهنيات العامة لا يمكن نسبتها خالصة للخزرجي إلا بقدر دوره في اختيار أو اختزال أو إعادة صياغة لمنقولاته عن الكتب التي أشار إليها.
والصورة الاجتماعية التي ننوي استخراجها من كتاب العقود هي تلك التي تأتلف فيها عناصر الحياة كلها باستثناء السياسي منها، ولا شك أن السياسي عنصر مؤثر في الصورة الاجتماعية كلها لكننا لن نتعرض له إلا بقدر اتصاله بباقي أجزاء الصورة التي تشكلها الأخبار المتعلقة بالعلم والاقتصاد وأخبار الحياة الاجتماعية من عادات وتقاليد وذهنيات عامة.
ففي مجال العلم أورد الخزرجي أخبارا عن الفقهاء والعلماء والمتصوفة والأدباء وما ألفوه من كتب أو أشعار، كما عرض لبناء المدارس، وذكر ما كان يدرس فيها من كتب، وأكثر أخبار الكتاب تقع في هذا الباب. وفي موضوع الأموال والجبايات (الاقتصاد) عرض الخزرجي لعلاقة الدولة الرسولية بالرعية وطرق تحصيل الخراج والزكاة، كما تحدث أحيانا عن المقادير المفروضة على المزارعين وأشكال الإصلاح التي وقعت في عهد هذا السلطان الرسولي أو ذاك، كما ذكر الكوارث والمجاعات والموقف الرسمي منها، ومنها يتعرف القارئ على المصطلحات المعاصرة ذات الصلة بالأرض والنظام الإداري والأموال والإصلاحات الاقتصادية، كما أورد الخزرجي أخبارا عن مصادرات وقعت بين الحين والحين، وعن التجارة وموادها، والصِلات السياسية مع مصر خاصة بما فيها من هدايا متبادلة بين الرسوليين ومماليك مصر.
ولم يفرد كتاب “العقود” ذكرًا خاصا لحياة الفلاحين والرعية كي نستخرج منها صورة أوسع للحياة الاجتماعية، والقليل من الذكر فقط يمكن استخلاصه حين ترد أخبار اجتماعية عن الكوارث الكبرى والمجاعات، أو ما اتصل منها بشأن رسمي له علاقة بالمدفوعات المستحقة للدولة أو بإصدار عملة جديدة أو بإحصاء عدد النخل في هذه الجهة أو تلك لتحديد ما يدفع عليها، ومع ذلك فإن في سير من وردت أسماؤهم من المشاهير والأعيان وخاصة الفقهاء والمتصوفة وشيوخ العلم، ما يعين على رسم صورة اجتماعية فيها العادات والتقاليد وعلاقات القوم بعضهم ببعض، وعبرها تظهر أيضا ملامح التطور العلمي وطبيعة الذهنيات السائدة إزاء بعض القضايا العامة، التي سنوردها ضمن مصطلح الذهنيات العامة (والمقصود به ما ندعوه اليوم خرافات لمجافاتها العقل والمنطق)، لكن اصطلاح الذهنيات العامة يحتفظ للعصر بنكهته الثقافية كون تلك الذهنيات كانت جزءا من اعتقادات يقينية إزاء ما روي من ظواهر بعينها خارقة للعادة.
وفي كتاب العقود أيضا ذكر لنساء بني رسول وألقابهن المميزة مثل الدار نجمي والدار شمسي، والجهة، وهن يذكرن بأفعال في مجالي السياسة والعلم، وفي المجال الاجتماعي أيضا.
غير أن تتبع مفردات هذه اللوحة الاجتماعية كلها متعذر في حيز بحثي محدود، فضلا عن كونها مستوعبة من كتاب الخزرجي وغيره في كتاب “حياة الأدب اليمني في عصر بني رسول”، لمؤلفه (عبد الله الحبشي). ولذلك رأينا الاقتصار على إبراز الصورة العلمية أولًا، وثانيًا: إبراز الذهنيات العامة لما بينهما من اتصال، أساسه أن معظم الذهنيات الواردة ارتبطت بفقهاء وعلماء، أو دارت حولهم. وسنحاول في الختام تقديم تحليل لفهم العلاقة بين العلم والخرافة، على أساس أن العالم والفقيه المنوط به بناء العقل وتحريره من أخطائه وخزعبلاته هو ذاته مدار الذهنيات العامة لذلك العصر.
وقد عقد الحبشي فصلا للعلوم في عصر بني رسول في الكتاب المشار إليه، أجمل فيه أحوال العلم في عصر بني رسول كُلِّه، وما حاولناه هنا هو تجاوز المجمل إلى بعض التفاصيل اليومية التي شكلت الثقافة العلمية المعيشة في القرن السابع الهجري بخاصة، فضلًا عن ربط الصورة العلمية بالذهنيات العامة وهو مما لم أعثر له على سابقة في القرن السابع الهجري في اليمن.
أولا- الصورة العلمية:
- الصورة العلمية العامة
تحت هذا العنوان سنحاول رسم صورة للحياة العلمية في القرن السابع الهجري في اليمن، وليس لهذا من تبرير سوى احتواء الكتاب المذكور على كم من الأخبار الصالحة لرسم العلاقة بين العلم والذهنيات لهذا القرن وما تلاه، ولذلك فإن الصورة المستخرجة لهذا القرن، يمكن سحبها بكليتها على القرن الثامن والتاسع حتى مطالع القرن العاشر الهجري، حين تغيرت الأحوال السياسية وسقطت أهم دولتين رعتا العلم في اليمن على نحو استثنائي هما الدولة الرسولية التي نحن بصددها ثم الدولة الطاهرية التي أعقبتها (858- 923 هـ).
يستطيع متصفح كتاب العقود اللؤلؤية للخزرجي أن يقف سريعا على مزاج عصر كان فيه العلم، والعلم الشرعي على وجه الخصوص، يحظى برعاية أولي الأمر وبقبول الناس وإقبال عليه كبير من الراغبين في التّعلُّم. وليس الحشد الكبير من الفقهاء والعلماء الذين أرخت لهم مصادر هذه الفترة، إلَّا دليلا على ذلك، بالإضافة إلى العدد الكبير من المدارس التي استقصاها وأفردها في كتاب جامع القاضي العلامة المحقق (إسماعيل بن علي الأكوع)، سماه: “المدارس الإسلامية في اليمن”.
لقد كان زمن نهضة علمية حقيقي، وإن لم تحظ العلوم العقلية بالاهتمام ذاته كالذي حصلته العلوم الشرعية. بُنِيَت المدارس ورُتِّب فيها المدرسون وجُعِل لها الوقف الضروري وبعض واردات الدولة لضمان استمرارية التدريس فيها. ويورد الخزرجي في عقوده عناوين كتب كانت مدار تدارس أو تأليف أو شرح أو اختصار أو مناقشات، بعضها مشهور مثل كتب الحديث الستة وكتب القراءات، وبعضها من تآليف علماء اليمن، وقد ورد ذكر هذه الكتب بالإشارة إلى المختصر المتداول في عنوان الكتاب دون ذكر اسم الكتاب كاملا ولا مؤلفه، اعتمادا على الشهرة، وعلى طول العشرة مع كتب بعينها، مثل الإشارة إلى “المهذب” و”البيان” و”المعين” و”الُّلمَع” و”الوسيط”، وإلى شروح ألِّفت حولها، دون حرص على ذكر تفاصيل وافية لها، وهو ما يعني شهرة هذه الكتب في العالم الإسلامي كله، حيث لا حاجة إلى التفصيل في المشهور المتداول. ودليل شهرتها ذِكْرُها أيضا بتعريفها الكامل عند ياقوت الحموي في معجم البلدان في إطار التعريف ببعض مراكز العلم في اليمن[2].
وإجمالا للمتفرق وحتى نتمكن من متابعة الإشارات التي ترد في عقود الخزرجي للمشهور من الكتب المتداولة في القرن السابع الهجري خصوصا، يحسن أن تتم الإشارة إلى العلوم والكتب المتداولة التي ورد ذكرها متصلا بسير الفقهاء والعلماء. أما العلوم فكانت: (الفقه، والفرائض، والنحو والصرف، والمعاني، والبيان، وأصول الفقه، وأصول الدين، والتفسير، وعلم القراءات، والحديث وعلومه، واللغة والعروض، والقوافي) بالإضافة إلى (الطب، والمنطق، والموسيقى، وعلم الفلك) ولكن بندرة ظاهرة، بل لم تكد تذكر[3]، وهناك من كان يتعاطى التنجيم المتصل بعلم الفلك.
أما الكتب التي كانت مدار تداول وترد في عقود الخزرجي بأسمائها المختصرة، فقد لُذْنا بجامع الشروح والحواشي لبيانها[4]، وهي جميعا من كتب الفقه الشافعي، منها ما هو مرجعي أصلي (أمهات) ومنها شروح للكتب الأصلية، وبعض الشروح تتحول إلى أصل وتحوز على شروح ومختصرات وهكذا. وأشهر الكتب المرجعية الأصلية التي تم تدارسها هي كتب “التنبيه في فروع الشافعية” و”المهذب في المذهب” و” اللُّمع في أصول الفقه” (لأبي إسحاق الشيرازي) (ت: 476 هـ)، ثم تدارس الطلاب شروح هذه الكتب وخاصة شروح (يحيى ابن أبي الخير العِمْراني)[5] (بكسر العين) لكتاب “المُهذَّب”، وهو من علماء القرن السادس الهجري البارزين، (ت: 558هـ) وهي: ” مشكلات المهذب” و: “الزوائد على الزوائد”، و: “البيان في مذهب الإمام الشافعي”. وقد طبع أخيرا. ثم شروح “التنبيه” التي كان نصيب أهل اليمن منها ثمانية شروح وحواشٍ ومختصرات للأصل والشروح، منها مما ألِّف في القرن السابع مثل: ” الإكمال لما وقع في التنبيه من الإشكال”، (لمحمد بن عبد الرحمن التريمي الحضرمي) (ت: 650هـ)، و “شرح التنبيه” (لأبي القاسم أحمد بن محمد السبتي الحضرمي اليمني) (ت: 675هـ)، و “شرح التنبيه” (لمحمد بن أبي بكر الأصبحي) (ت: 691هـ). كما حاز كتاب ” الُّلمع ” على شروح كثيرة من علماء اليمن وفي مقدمتهم علامة القرن السادس الهجري (يحيى ابن أبي الخير العِمْراني)، فقد ألف شرحا سماه: ” مقاصد اللمع”، وفي القرن السابع الهجري ألف (أبو بكر موسى التباعي الحميري اليماني) (ت:621هـ) ” شرح اللمع” وألف قاضي عدن (أحمد بن مقبل العلهي اليمني) (ت: 630هـ): ” شرح مشكل الُّلمَع”.
ومن الكتب الأصلية التي تدارسها أهل العلم في اليمن كتابا: “الوسيط المحيط بأقطار البسيط” و:”الوجيز في الفروع”، لحجة الإسلام (أبي حامد الغزالي) (ت: 505 هـ). وقد اهتم أهل اليمن بكتاب “الوسيط”، وألفوا شروحا حوله، من ذلك “غرائب الوسيط” (ليحيى ابن أبي الخير العِمْراني) السالف الذكر، و:”شرح الوسيط” (لإسماعيل بن محمد الحضرمي) (ت: 677هـ)، و:” شرح الوسيط” (لجمال الدين أحمد بن علي العامري) (ت:721 هـ). ومن الكتب الأصلية المتداولة أيضا: “الحاوي في الفقه” (لنجم الدين عبد الغفار القزويني) (ت: 665هـ)، وقد حصلت له شروح ومختصرات كثيرة. ومن الأمهات أيضا كتاب: “منهاج الطالبين وعمدة المفتين”، المعروف اختصارا بالمنهاج، لمحيي الدين أبي زكريا النووي (ت: 677هـ)، و:” معين أهل التقوى على التدريس والفتوى” (لعلي بن أحمد الأصبحي) (ت:703هـ)، وهو مؤلف حاز شهرة وقبولا وتدارسه طلبة العلم، لجمعه المسائل الخلافية في الفقه، وقد كتبه مستعينا بأكثر من أربعين مصنفا من الأمهات والشروح[6]. كما كان يعتمد في علم الفرائض على كتاب: “الكافي” (لإسحاق بن يوسف الصردفي) (ت: 500هـ) وشروحه، وقد حل محل كتاب: “كفاية المهتدي” (لمحمد بن يحيى بن سراقة العامري) (ت:410هـ)، وفي علم الحديث تدارس الطلبة الكتب الصحاح الستة، بالإضافة إلى كتب في النحو واللغة.
- 2 نماذج من العلوم والعلماء.
للحصول على صورة وافية عن الثقافة العلمية للقرن السابع، تم- أمام تشابه كثير من السير العلمية والأوصاف- انتخاب قائمة من العلماء والفقهاء والمتصوفة (مستبعدين الأدباء والشعراء)[7] تتكفل سيرهم المتنوعة، برسم صورة عامة للحياة العلمية على نحو مرضٍ، لاسيما وقد لاحظنا أن النعوت المتنوعة التي رُصِّعَت بها أسماء العلماء والفقهاء والمحدثين والمتصوفة، تعكس صنوف المعارف التي سادت في القرن السابع الهجري، وأوجه التعامل معها، ومراتب الإطراء التي دُبَجَّت بها سير العلماء والفقهاء.
ولنبدأ بالقاضي (إبراهيم بن أبي بكر العرشاني)§ مثلا (ت:626هـ)، وهو شاهد على حياة علمية سابقة عن الرسوليين، فقد توفي في بدايات الدولة الرسولية، وحاز نعوتا تدل على تميزه وغزارة علمه، فقد كان: ” فقيها فاضلا أصوليا، وله مصنفات في الأصول، على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري”[8]. ومثله الفقيه (سالم بن محمد العامري) (ت:629هـ)، والمتوفى أيضا في بدايات الدولة الرسولية وقد وُصِف بأنه: ” كان فقيها مُحدِّثا غلب عليه الحديث “[9]. كما وصف الفقيه (أبو العباس أحمد العُلي)، (ت:630) بأنه كان: “حافظا محققا فقيها مدققا”، صنف كتابا يسمى الجامع، يدل على جودة علمه وكتابا في أصول الفقه سماه الإيضاح وله شرح المشكل في غريب اللمع”[10]. ووصف الفقيه (أحمد بن الفقيه بن أبي عمران) (ت:632 هـ) بأنه: ” تعلم السنة والفقه والنحو واللغة والحديث والأصول”[11]، وكان أستاذا للسلطان الرسولي (نور الدين عمر بن علي بن رسول).
- 3 صلة علماء اليمن بمراكز علم في العالم الإسلامي
وكان علماء اليمن لهذه الفترة على صلة بباقي مراكز العلم في العالم الإسلامي، ومنها مكة وبغداد ومصر وخراسان. يستفاد ذلك مما ورد في سيرة الفقيه العلامة (الإمام علي بن قاسم الشراحيلي) (ت: 640 هـ)، الذي صنف كتبا كثيرة، منها كتاب: “الدرر في الفرائض”، ومختصرا سماه: “الدرر”، بين فيه بعض مشكلات “التنبيه”، وكان الفقيه يحفظه عن ظهر قلب، ثم أرسل مختصره إلى بغداد بمعية (رضي الدين الصغاني)، فحَفّز جماعة من علماء بغداد وغيرهم للإجابة على المشاكل التي أبرزها في كتاب “التنبيه”[12]. وربما كان لِصِلات الرسوليين الحسنة بالعباسيين صِلةٌ بهذه العلاقة العلمية لأنها تنسجم مع تبعية الرسوليين الاسمية للخلافة العباسية. وهناك صلات علمية أخرى أقامها علماء اليمن مع علماء مكة، بحكم مكانتها الروحية من جهة، ولوقوعها تحت السيادة الرسولية لهذه الفترة، واهتمامهم الزائد بِكَسيِ الكعبة كما ينبغي. ومن الفقهاء الذين أقاموا صِلات علمية مع علماء مكة الفقيه (أبو عبد الله محمد بن إبراهيم) (ت:661 هـ)، فقد ارتحل إلى مكة والمدينة وأخذ عن مشايخها المجاورين مثل (ابن أبي الصيف) و(عمر بن عبد المجيد القرشي)، وكانت له مكانة عند المنصور والأشرف الرسولِيَّين.[13] أما الصِلات العلمية مع خراسان ومصر، فقد اقترنت بسيرة المظفر الرسولي العلمية، (647-694)، لأنه إلى جانب كونه حاكما كان “متضلعا في العلوم”، ومنها علم التفسير، ومن شهادات حرصه العلمي واستقصائه المعرفي، ما ذُكِر أنه قرأ تفسير (فخر الدين الرازي) فوجد فيه نقصا، فكتب بهذا الشأن إلى قاضي قضاة الديار المصرية، (تاج الدين ابن الأعز) فأرسل له بأربع نسخ من التفسير فوجد فيها النقص ذاته، ثم أرسل رسولا إلى “هِراة بخراسان”، ليأتيه بنسخة المُصَنِّف، فأتته النسخة ووجد فيها النقص ذاته. وينقل الخزرجي أن المظفر كان عالمًا بالطب أيضا، كما جاء في رسالة أرسلها المظفر لصاحب مصر، يطلب منه طبيبا، ليعمل في “ظفار الحبوظي” الوبيئة (وهي ظفار العُمانية حاليا)، وقد جاء في الرسالة: “ولا يظن المقام العالي أنا نريد الطبيب لأنفسنا، فإنا نعرف بحمد الله من الطب ما لا يعرفه غيرنا، وقد اشتغلنا فيه من أيام الشبيبة اشتغالا كثيرا، وولدنا عمر الأشرف من العلماء بالطب، وله كتاب “الجامع” ليس لأحد مثله”[14]. ويستفاد من هذه الصلة العلمية مع مصر لاسيما المتعلق منها بطلب طبيب ليعمل في ظفار الحبوظي، دليلا على أن العلوم البحتة لم تكن مرعية بالقدر نفسه الذي رُعيت فيه العلوم الشرعية. وقد مرت بنا إشارات يتيمة إلى وجود من يعلم في الطب والفلك والهندسة، لكن طلب طبيب من مصر ليعمل في ظفار الحبوظي يشهد على عدم تكون فئة من الأطباء يُداوون ويُدَرِّسون ويؤلفون كما هو الحال في العلوم الشرعية، كما لم يرد قط ذكر لبناء مشفىً لمداواة المرضى رغم انشغال المظفر الرسولي وابنه في الطب كما ورد.
- 4 غلبة العلم الشرعي والتقليد
لقد ظل العلم الشرعي وطلب الفقه خاصة هو الغالب، ولذلك كثرت مراكزه وكثر المنشغلون به والمتخصصون في فروعه. ذُكر في سيرة الفقيه الفاضل (أبي عبد الله ابن عمران الخولاني) (ت:695هـ) بأنه توجه إلى “جَبأ”[15] للتعلم، وهناك قرأ القرآن والفقه والحديث على عشرين شيخا.[16] وقد اكْتُفي في العلوم الشرعية باستيعاب وفهم المتداول منذ قرون، وهو ما تؤيده بعض النعوت الواردة في عقود الخزرجي، ومنها ما وصف به الفقيه (أبا العباس أحمد بن الحسن ابن أبي الخل) (ت:690هـ)، وأنه كان: “فقيها محجاجا، غَوَّاصًا على دقائق الفقه، عارفا بأخبار المتقدمين، صاحب فنون متسعة”.[17] كما لم تتضمن سير الفقهاء والعلماء التي بين أيدينا، ما يفيد الجدل والنقاش حول أمور اجتهادية جديدة، بل ربما عرض الفهم المختلف للسائد والمتداول والمكتوب، عرض صاحبه لسوء الظن به، وهو ما يعني غلبة التقليد في القضايا المتدارسة. نستفيد هذه الفكرة مما ورد بشأن الفقيه العالم (أبي محمد عبد الله بن زيد العريقي) وأنه كان: ” فقيها دقيق النظر ثاقب الفطنة، اتضح له في بعض المسائل ما لم يتضح لغيره، فلم يقلد فيها إمامَه، فأنكر عليه عُلماء وقته.. وكان مشهورا بالعلم والصلاح ومصنفاته تدل على غزارة علمه، وجودة نقله، وله عدة مصنفات في الفقه والأصول”[18]. بيد أن فهمه المخالف للسائد قوبل بالرفض والاتهام. كما اتُّهم الفقيه (محمد بن سالم بن علي العنسي) (ت: 677هـ)، في دِيْنِه، ولم يرد سبب الاتهام، غير أن الرواية تبدأ بالشهادة للفقيه بالفضل، وأنه هجر الفقهاء ونافرهم، لاتهامه في دينه بالباطل. وقد اضطر أن يبين أن اتهامه كان باطلا، فقصد (بهاء الدين العِمراني) (ت:695هـ)، متولي الوزارة والقضاء لهذه الفترة، وحلف أمامه، بأنه لم يغير معتقده وأراه كتابا: “صنفه في معتقد أهل السلف فقبل منه بعض قبول”[19]. وكان تصنيف أحد الكتب سببا لوحشة بين الفقيه العلامة (أبي الخطاب عمر اليعلي) (ت: 684هـ) و(بهاء الدين العمِراني)، متولي الوزارة وقضاء الأقضية، فقد صنف الفقيه اليعلي كتابا سمَّاه: “زوائد البيان على المهذب”، وذكر أن مؤلف “البيان”، (يحيى ابن أبي الخير العمِراني)، كان قريبا للوزير بهاء الدين العمِراني، مع أن بين تاريخي وفاة الرجلين قرنا وثلث القرن ونيف، إذ توفي ابن أبي الخير العمراني مؤلف “البيان” في (558هـ) وتوفي الوزير بهاء الدين العمِراني في (695هـ)، لكن شهرة الاثنين ضمنت تواصل النسب بينهما، لالتقائهما عند الجد عِمْران، فالأول عالم ووزير معاصر، والآخر عالم مات، فأحيته كتبه المتدارسة ومنها “البيان”. ثم نُقِل للوزير العِمْراني أن غرض تأليف كتاب ” زوائد البيان على المهذب” هو الحط من قيمة كتاب “البيان”، كي لا يلتفت إليه الناس مع وجود كتاب “المهذب”. ومع أن الزيادات في العلم محمودة إلا أن “البيان” كما تفيد الرواية لم يكد يجد شهرة، وأن هذا المؤلف الجديد، كما أشيع، إنما قصد الحط منه وكأنه يبين مواقع الزيادة التي لا تجوز، وهذه كلها أمور تشهد على حراك علمي من وجه، لكنه حراك ضمن السائد والمألوف وأن التقليد كان سيد الموقف، وينظر بريبة إلى أي فهم أو تأويل جديد يصل إلى حد الاتهام في الدين.
هذا لا يقلل البتة من ألق الحركة العلمية، ومن أهمية ثقافة التعلم والاستيعاب وفتح الباب واسعا أمام الجميع للتعلم والرقي في سلم العلم، مقارنة بالأحوال السابقة على الدولة الرسولية، أو حتى مقارنة بأحوال الجهات التي سيطر عليها أئمة الزيدية، حيث كانت المساجد وما عرف بالهِجَر أمكنة للتعلم[20]، لكن العلم كان إلى الاحتكار أقرب، في بيوت محددة، ولم ينتشر انتشاره في بقية جهات اليمن المحكومة من قبل الرسوليين. ولعل السبب يكمن في الموقف من العلم عند كل من الرسوليين والأئمة الزيدية، فقد رأى الأئمة أنفسهم مصدرا للعلوم الشرعية وللاجتهاد فيها، وبقي احتكار العلم أمرا ملازما للسيادة ولم يخرج إلا للمقربين الذين تشكلت منهم بعدئذ طائفة القضاة، بينما احتاج الرسوليون العلم الشرعي من خارج أسرتهم، من العلماء أيا كانوا، لأنه شكل أحد مسوغات حكمهم في مواجهة أئمة علماء يفخرون بنسبهم الهاشمي ويرونه أُسَّ الشرعية لحكمهم، لذلك اجتهد الرسوليون في نشر العلم قناعة بأهميته ومن أجل التقرب إلى الناس بتوفير سبل العلم لهم، كما قَرّبوا منهم من برع فيه وأجاد لاستدراك نقص في المواجهة الفكرية مع الأئمة الزيدية وعلمائهم الكبار، وليشكل من ثم سندا قويا في معترك الشرعية الحاد لذلك الوقت.
- 5 أساتذة القصور:
ومن الفقهاء المتصلين بالبيت الرسولي الحاكم، الفقيه (أبو محمد سعيد بن أسعد الحرازي) (ت:678هـ)، الذي تظهر سيرته ما يمكن للمرء أن يبلغه بفقهه وعلمه، فقد أخذ العلم في “ذي أشرق”،[21] وحفظ القرآن واشتهر بحسن الصوت والخط، فاستدعته (الدار النجمي)، أخت السلطان الرسولي نور الدين، وكانت تسكن ” ذي جبلة” فصار عندهم معلما، وكان بين دَرَسَته (تلاميذه)، ولي العهد المظفر الرسولي، فلما صار ملكا استدعاه وجعله معلما لولده الأشرف: ” فنال نصيبا وافرا من الدنيا “.[22] وقد وصف هذا الفقيه بأنه لم يكن مُداهنا في دينه، وأنه كثيرًا ما صدَّ الأشرف عن أمور غير لائقة، وهو ما أقر به الأشرف بعد موته. ولم تذكر تلك الأمور صراحة، لكن إشارته إلى أنه نال نصيبا وافرا من الدنيا، تعزز قيمة العلم الشرعي الاجتماعية، وتكشف سر التنافس في الحصول عليه، وإن لم يكن بابًا لاتساع الدنيا عند جميع الفقهاء كما هو في كل آن وحين، فليس كل من اتصل بالرسوليين اتسعت دنياه ومنهم الفقيه الفاضل والأديب اللبيب (جمال الدين محمد بن حسين الحضرمي) (ت:681هـ)، الذي اشتهر بحسن الخط أيضا، ولم تذكر له دنيا واسعة، حتى بعد أن جعله الملك المظفر مربيا لولده المؤيد، لكنه أخلص في تربيته فَعًلَّم وأجاد وصار المؤيد: ” ببركة تعليمه من أعيان الملوك”[23]. وبعض الفقهاء وصل بعلمه مرتبة عظيمة عند الرسوليين، فجمع بين منصبي الوزارة والقضاء، ومنهم القاضي بهاء الدين محمد بن أسعد العِمراني (ت:695)، الذي مر ذكره، إذ حاز صحبة أكيدة مع المظفر فولّاه الوزارة مع قضاء الأقضية، ويوصف بأنه كان خطيبا مُصقعا لبيبا ذا دهاء وسياسة وله حسن نظر في تدبير المملكة، كما كان شاعرا فصيحا وله في ذلك مؤلف ضخم، ولم يفت الرواية أن تذكر أن خَطّه كان ضعيفا، للإشارة إلى أن حسن الخط كانت من المزايا البارزة عند فقهاء زمنه وعلمائه.[24]
- 6 الفقراء يتعلمون:
وفي العقود إشارات كافية حول تأثير الفقهاء في كل أنحاء اليمن، ففي سيرة الفقيه إبراهيم بن عبد الله بن زكريا يرد أنه كان: “فقيها عالما مدققا، تفقه به جمع كثير من التهائم والجبال.. وانتشر عنه الفقه في اليمن انتشارا متسعا”.[25] وتُعطي بعض سير العلماء معلومات عن المراكز العلمية في اليمن وتنوع تخصصاتها، ففد جاء في سيرة الفقيه الإمام العالم أبي الحسن علي بن مسعود الساعي ثم الكُتبي، بأنه كان إماما كبيرا ذا فنون كثيرة، اشتغل في أول عمره بالقراءات السبع حتى أتقنها، وأنه تعلم هذه القراءات في “حراز”[26]، ثم قصد الفقيه محمد بن عبد الله بن نزيل في “جبل تيس”[27] فقرأ عليه “المهذب”، ثم ارتحل إلى “جبا” فتعلم “البيان” على يد الفقيه أبي بكر بن يحيى، ثم عاد إلى “المخلافة”[28] فأخذ يدرس بها، لكنه لم يتمكن من الاستقرار فيها لغلبة الأئمة الزيدية عليها بعد ذلك.[29]. أما الأبرز من الأخبار المتصلة بالفقيه المذكور، فهي تمكين الفقراء من التعلُّم، وأنّ حلقته كانت تجمع ثمانين “متفقها” أكثرهم ذو فقر وحاجة وإيثار” [30].
وغالبا ما يتلازم ذكر الفقهاء بالمدارس التي درسوا فيها، وبالدرَسَة الذين تتلمذوا على أيديهم، ومثال ذلك ما يرد عند ذكر وفاة الفقيه الصالح أبي الخطاب عمر بن مسعود الحميري نسبًا الأبيني بلدًا (ت: 658 هـ) وأنه كان مدرسا بالمدرسة النظامية في “ذي هزيم”[31]، وأن جمعا كثيرا تفقه على يديه و” خرج من أصحابه أربعون مدرّسا”.[32].
- 7 الفقهاء والقضاء:
وبعض الفقهاء كان يعمل في القضاء ومنهم الفقيه محمد بن أسعد بن عبدالله القري المذحجي العنسي(ت:661هـ)، الذي ولي قضاء عدن برهة من الدهر واتصف بالورع وجودة الفقه وكان حريصا على التواصل مع الفقهاء، ومثله كان الفقيه الصالح القاضي أحمد بن ثُمامة (ت:661هـ)، الذي اشتهر بالعبادة والصلاح “وامتُحِن بقضاء الضَّحِى”. وتسترعي الانتباه عبارة “وامتحن بقضاء كذا….” فهي ترد أحيانا متصلة بمنصب القضاء كما في هذه السيرة، لكنها تغيب في السيرة السابقة حيث يذكر فقط ولاية القضاء دون الامتحان بها، لكن ذكرها المتكرر مقترنة بمنصب القضاء يكشف مشهدا اجتماعيا متصلا بمنصب القضاء، فالقضاء في تاريخ المسلمين كان -وما يزال-محك الورع لاتصاله بحاجات الناس ولما فيه من إغراءات وإمكانية استغلال المنصب للإثراء الحرام من خلاله أو القدرة على الجمع بين هذا المنصب المغري والتعفف عن الأموال[33]. وربما كان لذكر الامتحان بالقضاء علاقة برغبة حكام الوقت إسناد منصب القضاء إلى من يأنسون فيه الورع والتعفف عن المال الحرام. لكن هؤلاء الذين يرفضون تعففا وبعدا عن مواطن الشبهات، يجبرون بعدئذ على قبول المنصب. يستفاد ذلك مما ورد في سيرة الفقيه سليمان بن محمد الملقب بالجنيد (ت:663هـ) وأنه امتحن بقضاء مدينتي اليمن زبيد وعدن ثم عوفي (أعفي) من الجميع وعاد بلده[34]. فذكر الامتحان والإعفاء ربما دل على ما أشرنا إليه. ولعل فيما ورد في سيرة الفقيه الصالح بن إبراهيم العثري، ما يعزز هذه الفكرة، فقد ذكر أنه “ولِّيَّ قضاء تهامة أجمع” “القضاء الأكبر”، وأنه كان من أهل الدين والدنيا وممن يأخذها من وجهها ويضعها في مستحقها، كثير البر والمعروف وله مكارم أخلاق وكان يضرب به المثل في الكرم والشفقة على الأيتام، وكان فوق ذلك مدرسا ويحضر حلقته أكثر من مائة طالب[35]. هذا يعني أن الفقيه لم يمتحن بالقضاء بل قَبِل العمل فيه كما قَبِل أخذ المال من المتقاضين وسواهم، ولذلك جاء الوصف أنه من: ” أهل الدين والدنيا”، لكن الرواية بسطت له العذر في أفعال البر الكثيرة مقابل ذلك، إذ يبدو أنه أثرى من منصبه الكبير ” القضاء الأكبر” إلى الحد الذي تمكن معه من الصرف على الفقراء والأيتام والضعفاء وعلى الخواص من أصحابه أيضا ومنهم الفقهاء.[36].
- 8 علماء المذهب الحنفي:
ومن بين علماء اليمن لهذه الفترة من كان على المذهب الحنفي رغم غلبة المذهب الشافعي، إلا أن المذهب الحنفي احتفظ بوجوده في زبيد تحديدا في هذه الفترة وكان في المرتبة الثانية بعد المذهب الشافعي[37]. ومن ممثلي المذهب الحنفي لهذه الفترة الفقيه الإمام البارع أبو العتيق أبو بكر بن عيسى بن عثمان الأشعري الحنفي المعروف بابن حِنكاس (ت:663هـ)، فقد كان عالما في المذهبين.. ومن صدور الفقهاء..، أوحد أهل عصره اجتهادا في طلب العلم ونشر المذهب حتى قيل لو لم يوجد لمات مذهب أبي الحنيفة في اليمن، وله مع السلطان الرسولي نور الدين عمر بن علي حكاية تشهد على حرصه على مذهب أبي حنيفة وعلى تسامح السلطان الرسولي أيضا، فقد لقي ابن حنكاس السلطان الرسولي عمر بعد أن ابتنى الأخير مدرسة في زبيد وجعل عليها فقيها لتدريس الفقه الشافعي، فقال له: “يا عمر ما فعل بك أبو حنيفة إذ لم تبن لأصحابه مدرسة كما بنيت لغيرهم، فأمر ببناء مدرسة ثانية وجعل فيها موضعا لأصحاب الإمام أبي حنيفة وموضعا لأصحاب الحديث النبوي”[38].
ومع هذا التعايش المذهبي الجميل فلم يخلُ الأمر من جُهَّال في أوساط العامة يرون في مخالفة المعتقد سببا للشقاق والتكفير، يرد ذلك في سيرة الفقيه الحنفي الفاضل أبو عبد الله محمد بن علي (ت:681هـ)، الموصوف بالزهد والورع، فقد أصابه دين عظيم هرب بسببه إلى الجبال فأقام في مصنعة “سَيْر”،[39] وهي من مراكز العلم المشهورة لذلك الوقت، فسأله بعضهم ذات يوم عن المعتقد: ” فأجابه بما لم يرض عنه السائل فأفضى ذلك إلى شقاق وتكفير فخرج الفقيه هاربا وبلغ القضاة ذلك فلم يعجبهم وأمروا برده”.
هذه الحادثة مثل شبيهاتها قديما وحديثا تكشف علاقة الجهل بالتعصب والتكفير، بينما العلماء والفقهاء يحتملون بعضهم بعضا طالما صدروا عن الكتاب والسنة، وتبين باقي القصة أن الفقيه الحنفي أكرم بعد ذلك من وزير الدولة الرسولية بهاء الدين العِمراني وقضي دينه واعتذر له من فعل ذلك المجادل[40].
- 9 التنافس على طلب العلم والمناظرات:
ومن مكونات الصورة العلمية أيضا التنافس على طلب العلم ثم حصول المناظرات بين العلماء والفقهاء لقياس مستويات المعرفة، ولا ضير في التنافس والمناظرات المشجعة على العلم لولا أن بعضهم وجد في المناظرات مدخلا للغرور المذموم والاعتقاد بأنه الأعلم في البلاد، كما تظهر ذلك سيرة الفقيه المصبري، الذي تعلم وصار فقيها وظن أنه أعلم أهل زمانه، ثم قصد زبيد فناظر فقهاءها وغلبهم فوصف نفسه شعرا بأنه الأفقه، فأراد مقابلة الفقيه علي بن مسعود للمناظرة وكان ابن مسعود، كما تفيد الرواية: ” كبير القدر معظما عند أهل العصر”، يسكن محلة “بيت حسين” في تهامة ويدرس في مدرستها، وكان له تلميذ هو (كما صار إليه بعد ذلك) الفقيه العالم أبو محمد عمرو بن علي السباعي الذي تنقل بين مراكز علمية كثيرة وحصّل معرفة في فنون كثيرة ومنها الفقه والقضاء وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي يرد ذكره هنا لأول مرة ليشير إلى وجود أتباع للمذهب الحنبلي أيضا[41]، وحط أخيرا عند الفقيه ابن مسعود دارسا في مدرسته. وصل الفقيه المصبري، الذي لا تكرمه الرواية بغير لقبه الشخصي هذا، دلالة على التبرم من سيرته، وصل إلى محلة “بيت حسين” ولقي عمرو بن علي السباعي تلميذ الفقيه علي بن مسعود فظنه الفقيه المقصود، فأخذ يلقي عليه أسئلته وتلميذ ابن مسعود يجيب عنها ولم يتعثر في سؤال أو مسألة، ثم أخذ التلميذ يلقي على المصبري أسئلته ومسائله فأجاب عن بعضها وعجز عن البعض الآخر، فاعتذر عن جهله وغروره لتلميذ ابن مسعود ظنا منه أنه الفقيه ابن مسعود، ثم أخبره التلميذ بأنه ليس الفقيه ابن مسعود وإنما تلميذه، وأن الفقيه علي يجلس في محراب المسجد إن أراد رؤيته، فازداد المصبري تعجبا وقال ” إن كان هذا دَرَسِيٌّ من دَرَسَتِه فكيف يكون المدرس”[42].
10 الحذر في تلقي العلم
ورغم الشغف الكبير بالعلم إلا أن بعض الفقهاء أظهر حذرا في أخذه إلا مِمَّن تم التحقق أنه أهل لأخذ العلم منه. يرد هذا الحذر في سيرة الفقيه أبي العباس أحمد بن محمد بن أسعد (ت: 667هـ) الذي وصف بالرصانة وبأنه صاحب كرامات وآثار وأنه ” لا يأخذ العلم إلا عمن خَبِره “. ثم قَدِم عليه رجل غريب تصفه الرواية بأنه تظاهر بالعلم والمعرفة وعرض على الفقيه أبي العباس أن يُقرِئه وأصحابه فرفض أبو العباس العرض محتجا بأنه لا يأخذ العلم إلا ممن تحقق من دينه وأمانته، وأن هذا الرجل غريب وربما أوقعه في محظور من حيث لا يشعر. لكن آخرين قبلوا التتلمذ على يديه ولم يظهر منه سوى الورع والزهد. وتضيف الرواية أن الملك المظفر زاره إلى منزله لما تحقق صلاحه وأكل عنده خبزا رآه خيرا وبركة[43]. ولم ترد سوى هذه الحادثة متصلة بالحذر من أهل العلم، كما لم يرد أي تعليل لذلك الحذر، ومع ذلك ربما كان لهذا الحذر، وقد ورد ذكر الملك الرسولي المظفر في هذه الرواية، صلة بالتنافس المذهبي بين الرسوليين والأئمة الزيدية، أو له علاقة بالتنافس في المقامات والقرب والبعد من السلطان، وأن الحذر كان طريقا للتشكيك في علوم الآخرين أو إثارة الريبة حولهم. فهذه أحوال بشرية لا يخلو منها زمان ولا مجتمع.
11 سيادة عقلية الاستيعاب والجمود على كتاب واحد:
ومن الكتب ذات الشهرة إلى جانب “التنبيه” الذي مر ذكره، كتاب: “البيان في الفقه الشافعي” ليحيى ابن أبي الخير العِمْراني، وهو من شروح “المهذب” كما أشرنا إلى ذلك. وكان الفقيه العلامة عبد الله بن يحيى الهمداني (ت: 676هـ) أبرز حفاظه فاستدعاه الملك الرسولي المظفر ليأخذه عنه، إذ كان قد أتقن حفظه لأنه كان تخصصه في التدريس، وقد كرر سماعه وإسماعه خمسا وعشرين سنة وكان مادة التدريس في المدارس التي رُتِّب فيها مُدرسا[44]. وهي رواية تشهد على جمود في الفكر وسيادة عقلية الاستيعاب والتلقين. وهما كافيتان للاعتراف للرجل بالعلم والتفقه وفقا للنعوت التي مرت بنا.
12 علوم دنيوية غير شرعية:
ومن الفقهاء الذين تظهر سيرُهم وجود تخصصات علمية غير شرعية، على ندرتها، الفقيه البارع أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الفارسي بلدا التيمي نسبا (ت:677هـ)، فقد أخذ بعض العلوم الشرعية عن شيوخ عصره في هذه الفنون، وأخذ عن الشريف (ولم يذكر له اسما كاملا) الطب والمنطق والموسيقى وعلم الفلك، وأنه شُهِر بعلم الفلك والموسيقى وله فيهما مصنفات مثل كتاب ” دائرة الطرب” وكتاب في “وضع الألحان”، وكتاب “التبصرة في علم البيطرة” و”آيات الآفاق في خواص الأوفاق” وكتاب “في معرفة السموم”[45]. ومن الذين ذكرت لهم صلة بالطب الفقيه الفاضل أبو بكر بن يوسف المكي الحنفي (ت:677هـ) وأنه كان عالما مشهورا نحويا لغويا متأدبا مترسلا عارفا بالطب. وأنه كان يُقَرِّي أهل المذهبين كما كان شيخه أبو سوادة.[46] وترد بعض المصنفات الجديدة مقرونة باسم الفقيه الإمام الفاضل أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الأصبحي (ت:691هـ) ومنها “المصباح”، وهو مختصر في الفقه، و: “الفتوح في غرائب الشروح “، و:”الإيضاح في مذاكرة التنبيه، و:”الترجيح”، و:”فضائل الأعمال” و:”الإشراف في تصحيح الخلاف”.
وتُضْفَى صفات حميدة متميزة على هذا الفقيه الذي دَرَّس في “مصنعة سير” قبل أن ينتقل إلى إب، فهو العالم العارف المحقق العابد الزاهد المتورع الكثير التلاوة، وله تلامذة كثر نبغ بعضهم ومنهم الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الأصبحي، صاحب كتاب “معين أهل التقوى..”، فأقبل عليه الطلبة إقبالا كبيرا وصار أحد كتب التدارس الأساسية الذي يكثر ذكره والإشارة إليه[47].
13 بين جودة العلم وكثرة التأليف:
ومن المصنفات الجديدة التي ترد في عقود الخزرجي ما أخرجه الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن عبد الله العِمْراني (ت:695هـ)، وهو فقيه فاضل مع ميل للتصوف كما تشير إلى ذلك مؤلفاته ومنها: ” جامع أسباب الخيرات، ومثير عزم أهل الكسل والفترات”، وقد وصف بأنه من أحسن كتب المتعبدين، كما ألف مختصرا سماه: “البضاعة في فضل صلاة الجماعة”، وكتاب: “البضاعة”، و”إيضاح الأصبحي”، و:”التبصرة في علم الكلام”، وهو ما يشهد بأن الاشتغال بعلم الكلام لم يكن حاضرا بقوة، ولذلك يقِل ذكر المصنفات ذات الصلة بهذا العلم[48].
ويستفاد من ملاحظة ترد على لسان الفقيه أبي العباس المساميري (ت:699هـ)، أن تأليف الكتب لم تكن قرينة على كثرة العلم وتجويده بل على الجد في ذلك، فقد كان الفقيه المذكور من أقران الفقيه أبي الخير بن منصور، المُحدّث بزبيد، وكان كثيرا ما يقول: ” أبو الخير أكثر كتبا مني وأنا أكثر علما منه”[49]، وهو قول يسمع في أيامنا هذه بالمعنى نفسه.
14 في ألقاب العلماء:
في ختام هذا الاستعراض عن الصورة العلمية للقرن السابع في اليمن تجدر الإشارة إلى تعدد الألقاب التي مُنِحت لمن ذُكرت وفياتهم وسيرهم، وهي متباينة، والأغلب ذكر لقب الفقيه دلالةً على اشتغال المذكور بالفقه والعلوم الدينية، كما يرد لقب الشيخ أحيانا بدلا عن الفقيه، ويفهم من بعض السير أنه لقب يختص برجال الصوفية المتقدمين في مراتب العلم، كأن يذكر مثلا: وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو موسى عمران الصوفي ويوصف بأنه: “كان من أعيان مشايخ الصوفية، صحب الشيخ علي الحداد بحق صحبته للشيخ عبد القادر الجيلاني وكان لزوما للسنة نفورا عن البدعة متعلقا بأذيال العلم وله كرامات كثيرة”[50].
لكننا مع ذلك لا نستطيع تبين نسق محدد في منح الألقاب للتعريف بالمذكورين، ففي التعريف بوفاة أبي الربيع الأشعري، يرد أنه الشيخ الإمام أبو الربيع سليمان بن علي الأشعري، الفقيه الحنفي، وتجتمع في التعريف به كما نرى ألقاب عدة، فهو الشيخ والإمام والفقيه الحنفي، لكن لا ذكر للتصوف في سيرته، كما أعطيت ألقاب مثل الفقيه والشيخ والعارف بالله لتعريف شخص واحد من غير رجال الصوفية، هو الشيخ والفقيه الإمام العارف بالله أبو الفداء إسماعيل الحميري اليزني (ت:677هـ)، والتي تظهر باقي سيرته أن تضلُّعه كان في ميداني الفقه والقضاء، وله في الفقه مصنفات مثل ” شرح المهذب”، وكان أحد أساتذة السلطان المظفر في علم الحديث، فأقرأه البخاري، وولي القضاء الأكبر في تهامة، ثم صارت له بعض أحوال قربته من الصوفية، ولم تصيره صوفيا. ولعل هذه الأحوال القليلة هي مأتى نعته بالعارف بالله بحكم سعة فقهه وطيب سيرته[51].
وربما كان تقلب الأحوال سببا في غلبة لقب على آخر، فقد ذكر في بعض السير غلبة التصوف على بعض الفقهاء في مرحلة ما من مراحل حياتهم، ومن أولئك الفقيه عثمان بن علي بن سعيد (ت:689هـ) ” تفقه ثم تصوف” واشتهرت له كرامات كثيرة مأثورة”[52]. ومنهم أيضا الفقيه أبو الحسن علي بن محمد الجنيد (ت:680هـ)، والذي وصف بالتقي والخيّر وأنه امتحن بقضاء “ذي أشرق”، فقال ذات يوم بينما كان جالسا في حلقة التدريس: ” اليوم نحن فقهاء وغدا نكون صوفية”، ثم أصبح بعد ذلك شيخا من شيوخ الصوفية مُحَكما ويجوز له تحكيم غيره، ومع ذلك لا يرد في سيرته غير لقب الفقيه[53]. ومثله الفقيه الصالح أبو عفان عبد الله بن أحمد الخطابي (ت:683هـ)، الذي تفقه على أيدي شيوخ كبار: ” ثم غلب عليه التصوف والعبادة ويقال إنه أوتي اسم الله الأعظم، وكانت له كرامات عظيمة”[54]. ومثله الفقيه موسى بن عمر بن المبارك الجُعفي (ت:689هـ)، وصف بأنه كان فقيها صوفيا عارفا سالكا، وأنه أخذ الفقه أولا عن شيوخه، ثم صحب الشيخ محمد بن الفصيح فرباه تربية صوفية.. فكان فقيها صوفيا وظهرت له كرامات كثيرة[55].
وإجمالا نقول إنه لا يمكن تبين فوارق حاسمة في منح الألقاب، ومع ذلك فيمكن القول إن منها ما منح للتمييز بين الفقه والتصوف كما في المثال السابق، ومنها ما منح للتمييز في المقامات وفق درجة العلم التي وصل إليها شخص ما، حيث يستحق الشخص لقب الشيخ والإمام لتقدمه في فنون العلم على معاصريه من العلماء والفقهاء. ومع ذلك يلاحظ استخدام لقب الشيخ فقط لمن اشتهر عنه التصوف منذ البداية، يعزز ذلك ما نجده من ألقاب لتعريف أحمد بن علوان، أحد أشهر رجال الصوفية في القرن السابع، ولا تزال شهرته حية حتى اليوم، فهو الشيخ الصالح العارف بالله أبو الحسن أحمد بن علوان الصوفي صاحب يفرس[56]. ومثل ذلك يرد في تعريف أبي الحسن علي بن عمر المعروف بالأهدل (ت:689هـ)، فهو الشيخ الأهدل.. كبير القدر شهير الذكر ينسب إليه الجذب وأنه أخذ التصوف عن جده وقيل إنه رأى أبا بكر الصديق في المنام فصافحه وأخذ عنه يد التصوف وقيل صحب الخضر عليه السلام”[57].
ثانيا- الذهنيات العامة:
نقصد بالذهنيات العامة مجموعة التصورات المعتمدة اجتماعيا حول الذات والبيئة المحيطة، وطرق التعامل مع الظواهر الاجتماعية باحتسابها انعكاسا لرؤى ومعتقدات شائعة، وهي من ثَم جزء أساس من ثقافة عامة تتجسد في الشروح المقدمة لبعض الأحداث والظواهر الاجتماعية غير المنضبطة بمنطق يقبله العقل المعاصر، والتي تدخل اليوم مدخل الخرافة، كما تتجسد في الموقف من عالم الغيب وعالم الأحلام والرؤى وعالم الجن والتبرك بالقبور والأشخاص. وقد اشتمل كتاب الخزرجي أخبارا ثَرَّةً تتعلق بالصورة الاجتماعية وبالذهنيات العامة، وهي أخبار ترد في سير مشاهير وأعيان العصر ومن اتصل بهم من بقية الناس (الرعية).
- إشارات وبشارات حول ملك الرسوليين لليمن:
وما دمنا في معية الدولة الرسولية، فلا بأس من افتتاح الحديث عن الذهنيات العامة بما ورد في عقود الخزرجي من بشارات وإشارات كاشفة لصفحة الغيب وما فيها من أقدار تهيئ للرسوليين مُلك اليمن حين قدموا أول مرة في معية المك المسعود الأيوبي عام 612هـ إلى زبيد، وقد ارتبطت تلك البشارات والإشارات بعمر بن علي بن رسول، أول سلاطين بني رسول في اليمن، ومنها أن شيخا من مشايخ الصالحين نظر إلى جموع العسكر فرآها تحف بعمر الرسولي دون الملك الأيوبي صاحب الأمر، فتنبأ له بالملك وببقائه في عقبه إلى آخر الدهر، وعزز هذا التنبؤ برواية أخرى تصف رجلا مجهولا كان يراقب موكب الملك الأيوبي القادم بعسكره وطبوله، فسمع الرجل هاتفا يهتف ببيت من الشعر فيه إن الملك المسعود ليس له من الملك في اليمن إلا هذا السفر، وقد قصد الرجل مصدر الصوت فلم ير أحدًا، فتيقن أن الصوت للجِن وأن مُلك الملك المسعود لسواه[58]. والوضع ظاهر في هذه الرواية، فهي إسقاط خُرافي على وقائع حية حدثت فعلا بعد ذلك باستثناء بقاء الملك إلى آخر الدهر، فقد خرج الملك المسعود من اليمن خروجه الأخير باتجاه الشام ومات في مكة عام 626هـ، بعد أن استناب على اليمن عمر بن علي بن رسول الذي أخذ يرتب الأمر لنفسه ويعقد التحالفات للاستقلال باليمن عن الأيوبيين[59]، لاسيما وقد اعتقل الملك المسعود إخوة عمر وأرسلهم إلى مصر عام 624هـ بعد شكه بنوايا الرسوليين الاستقلال باليمن[60]. لكنه أبقى على الأخ الأكبر عمر فتمكن من الاستقلال باليمن لنفسه، وهي وقائع تاريخية لا تحتاج إلى أي سند خرافي، لكن الخرافة باستنادها إلى الجن تشير إلى الوظيفة الاجتماعية المراد منها، فهي تبشر بقدوم دولة جديدة وتهيئ النفوس لذلك بالإحالة إلى حكم الأقدار التي عقدت للرسوليين حكم اليمن ليتم قبول ذلك والإذعان له شعبيا. وهكذا تسهم هذه الرواية في دعم شرعية الرسوليين في الحكم، فقد كانت أزمة الشرعية مما أقض مضاجع الرسوليين في أول أمرهم على الأقل. وفي هذا السياق تقع أيضا بشارة العفريت، فقد نقل عن السلطان الرسولي عمر، أول سلاطين بني رسول، أنه أرق ذات ليلة فسمع دويا في الهواء فرفع رأسه وإذا عفريت هارب من الشواظ يحط عنده وهو يلهث، فقام عمر وسقاه ماء وهدأ روعه ثم أبلغه العفريت البشارة شعرا:
أسْفِر وأبشر يا أبا الخطاب.. بالملك من عدن إلى عيذاب.[61].
وعندما تكون العفاريت هي الباحثة عن الأمان عند عمر بن علي بن رسول، والمبشرات بالإمارة بشعر عربي فصيح، فلنتصور وقع هذه الروايات على العامة الغارقة في بحر الخرافات، إنها تذعن فقط وتستسلم لما يجري من تحولات سياسية دون سؤال عن شؤون السياسة وتعقيداتها.
وبعد هذه الافتتاحية التي تربط بين نشأة دولة بني رسول وإشارات الغيب نود رصد الذهنيات العامة للقرن السابع الهجري باليمن، كما وردت في العقود تحت عناوين محددة، هي الرؤى والأحلام، الكرامات الخارقة والتبرك بالناس والقبور، الهواتف الصوتية وتغيير المصائر، المسح على الصدر والبصاق في الفم، الزَّوَاجر، العلاقة بالجن.
2 الأحلام والرؤى:
لا نريد هنا الدخول في جدل حول مصادر الرؤى والأحلام وأن الأولى من الله والثانية من الشيطان، الغاية من استعراض ما ورد من رؤى وأحلام هو كشف مشاهد اجتماعية في زمن معين ليس إلا، فقد شكلت الأحلام والرؤى حيزا واسعا من محتوى الذهنيات العامة لهذا العصر، فتعامل معها الناس بوصفها إشارات من عالم الغيب واجبة الإتباع أو إفادات حاسمة في مسائل خلافية في الفكر الديني لذلك العصر، أو كرامة من الكرامات خاصة حين يكون موضوعها رؤيا يرى فيها الرائي النبي صلى الله عليه وسلم، كما كانت الأحلام أيضا بريدا سريعا وفوريا يتم عبرها التثبت من الأخبار التي ترد من بلاد بعيدة، أو معرفة مصائر الموتى أفي جنة هم أم في نار، إلى غير ذلك من الأمور التي تبين سلطة الحلم والرؤيا في حياة الناس، ففيها المعرفة وفيها الأمر وفيها الإخبار بالغيب وغير ذلك مما ستوضحه الأمثلة الآتية:
3 الأحلام وتغيير المذهب:
ولنبدأ بعرض رؤيا قدمت سببا لتغيير مذهب بني رسول من الحنفي إلى الشافعي، فقد كان آل رسول في الأصل أحنافًا، وهو المذهب الذي قدموا به إلى اليمن، ثم نقل عن السلطان الرسولي عمر بن علي أنه رأى النبي في المنام فأمره بالتحول إلى المذهب الشافعي قائلا: ” يا عمر صِرْ إلى المذهب الشافعي”[62]، فاستجاب للأمر وغير مذهبه، ولم تتحدث الرواية قط عن شيوع المذهب الشافعي في معظم اليمن، وأن السلطان الرسولي ربما قدّر بذكاء أن من غير اللائق أن يكون، وهو رأس القوم، بمذهب يخالف شعبه، وأن تحوله إلى مذهب الجمهور يقربه منهم ويجعله في غير خلاف معهم، فكان أمر النبي في المنام أفضل عذر يمكن تقديمه لتغيير المذهب. وبغض النظر عن حصول الرؤيا من عدمه، إلا أن إشاعة مثل هذه الرؤيا عذرا للتحول إلى المذهب الشافعي لا يعني فقط أنه عذر غير مردود بل يشير أيضا إلى درجة صلاح السلطان الرسولي، إذ لا تتأتى رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام إلا لمن كان على درجة من الصلاح والتقوى.
4 الأحلام والتحقق من الأخبار:
ومن الأحلام ما كان يعمل عمل البرقيات للتحقق السريع من خبر ما. يرد ذلك متصلا بأخبار الفقيه علي بن أحمد الرُّميمة الموصوف بأنه صاحب: ” مكاشفات وكرامات ظاهرة ” وكان قد علم أن السلطان الرسولي بعث إلى صاحب مصر رسولين هما ابن عباس والأمير ابن الدَّاية، فجاءه رجل ذات يوم وأخبره بأن دار ابن عباس في تعز يملؤه البكاء، لورود أخبار من مصر تفيد بموته هناك. ثم إن الفقيه بعد سماع الخبر أغفى إغفاءة قصيرة قام بعدها ليبلغ الخبر اليقين، وأن الذي مات هو الأمير ابن الداية وليس ابن عباس، ثم أرسل الفقيه إلى دار ابن عباس الحزين من يخبرهم بجلية الأمر، ليرفعوا الحزن، وليبدأ البكاء في بيت ابن الداية، ثم تضيف الرواية أن الخبر كان بعدئذ كما أخبر الفقيه.[63]
واعتقد الفقهاء بالرؤى التي كانت تخبر عن مصائر الموتى، فهذه رواية عن الفقيه عمر بن صباح وأنه رأى والده في المنام وكان قد توفي في طريق الحج فسأله عن أحواله وأحوال غيره من الفقهاء المتوفين فأخبر أنهم في نعيم الجنة، وأنه في كل مرة كان يكرر ” ويل للمتقشفين ويل للمتقشفين” ولم يتمكن الرائي من سماع تفسير شافٍ لهذا التكرار الذي يبدو أنه يُعَرِّض بالمتقشفين من أهل اليسار ليشير إلى ملمح اجتماعي لتلك الفترة[64]. وهناك منامٌ آخر يخبر عن مصائر موتى من عامة الناس ثم ما يحدث لهذه المصائر من تغير عندما يموت شخص جليل القدر كالفقيه الحنفي أبي بكر بن حنكاس، ولا تتصل الرؤيا هذه المرة بفقيه أو بشيخ صالح بل بشخص من عامة الناس أيضا نُقل عنه أنه رأى قريبا له في المنام، كان قد توفي قبل سنين، والمهم أن هذه الرؤيا تنقل عن الرجل بعد موت الفقيه ابن حنكاس، وفيها أنه سأل قريبه عما فعل الله به بعد موته فقال: ” حُبست منذ مت مع جماعة فلما توفي الفقيه أبو بكر بن حنكاس شَفَع فينا فأطْلِقنا وغُفِر لجميع من في المقابر ببركة قدومه رحمه الله تعالى”[65]. وهكذا تنتقل إلى الآخرة صور الدنيا حيث الحبس والشفاعة والإطلاق.
وبما أن الأحلام قد منحت سلطة معرفية على النحو الذي مر وعُدَّت واسطة بين الأحياء والأموات، فكيف الحال إذا تعلق الأمر برؤيا يرى فيه الشخص الله سبحانه وتعالى ذاته، ويرى في ذلك نذير من الله بالابتلاء، والرواية تتعلق بمحمد ابن الخطاب، أحد الفقهاء المشهورين، وأنه كان قد حصّل من العلم الكثير وهو ما يزال يافعا فركبه غرور فدعا عليه شيخه قائلا:” شغله الله”، لكن أحوال الرجل لم تنقلب إلا حين بلغ الخامسة والعشرين، إذ استدعى ابن الخطاب أخاه أبا الخير بن الخطاب يوما وأخبره بأنه رأى ربه في المنام، وأن الله قال له “يا محمد أنا أحبك فقلت يا رب من أحببته ابتليته فقال لي استعد للبلاء وأنت يا أخي فكن على أهبة من أمري”، وخلاصة الابتلاء أن الرجل أصابته لوثة عقلية، جعلته يتقلب بين العقل والجنون، ولم يسترسل الخزرجي كثيرا في وصف أحواله لكنه ربط تبدل الأحوال بتلك الرؤيا التي رآها وهو ما يعنينا هنا لبيان السلطة المُعطاة للأحلام والإذعان لتنفيذ إشاراتها[66].
5 الأحلام مبشرات بتغير الأحوال:
ومما يدل أيضا على الخضوع للأحلام ما رُوي عن الفقيه الصالح محمد بن معطن، وأنه كان يعاني صعوبة في فهم النحو، فرأى في المنام قائلا يخبره أن اذهب إلى الفقيه إسماعيل الحضرمي واقرأ عليه النحو. فلما أفاق استغرب الأمر لعلمه أن الفقيه الحضرمي لم يشتهر بالدراية الكافية في هذا الفن، لكنه مع ذلك استسلم لزائر الليل وذهب إلى الفقيه الحضرمي ولم يزد الأخير على أن رحب به وقال له: “قد أجزتك في جميع كتب النحو”، ثم عاد إلى بلده، وكان لا يطالع شيئا من كتب النحو إلا عرف مضمونه ببركة الفقيه الحضرمي كما قال.[67]
6 الأحلام وحسم القضايا الخلافية:
ولا غرابة، والأمر على هذا النحو في العلاقة بالأحلام، أن تعد رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام من الكرامات الخاصة التي تعزز وضع صاحبها اجتماعيا، إذ لا تتهيأ هذه الكرامة إلا لمن يستحقها ولذلك أخبر الفقهاء عن رؤاهم واستحقت التدوين في هوامش كتبهم خاصة وأن منها ما قام بفعل الحسم في الخصومات الفكرية والمذهبية القائمة ومنها الموقف من خلق القرآن، وتارك الصلاة، وطلاق التنافي، وكل هذا يرد في رؤيا وجدها المؤرخ الجندي مدونة في بعض ورقات كتاب البيان، دونها الفقيه الصالح أبو عفان عبد الله بن أحمد الخطابي عن فقيه آخر أخبره بالرؤيا، هو، كما جاء في تعريفه، السيد الأجل الفاضل الكامل يحيى بن أحمد الهمداني وأنه في منتصف جمادي الآخرة، في نصف الليل الآخر سنة ست وستمئة رأى في المنام أنه: ” كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القبة التي على قبره وقبر صاحبه رضي الله عنهما منكشفة من غير تخريب وقد بقي منها ما يغطي القاعدة ومن القائم إلى مقعد الإزار فدنا منها فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما قاعدين متوجهين إلى القبلة قال فاستقبلتهم من وراء الجدار الباقي وجعلت القبلة إلى ظهري ثم أعطيت نورا في قلبي وطلاقة في لساني وقلت يا رسول الله القرآن كلام الله غير مخلوق؟ قال نعم قلت بحرف وصوت يسمع ومعنى يفهم؟ قال نعم، فقلت فمن قال إن القرآن مخلوق كافر؟ قال نعم، قلت وإن صلى وصام وآتى الزكاة وحج البيت هل ترجى له الشفاعة؟ قال لا، قلت يا رسول الله طلاق التنافي[68] باطل أو صحيح فقال صلى الله عليه وسلم باطل باطل وأنا أشك في الثالثة. وغالب ظني أنه قالها، ثم قلت يا رسول الله تارك الصلاة كافر، قال نعم، قلت يا رسول الله فهؤلاء يرعون البقر والغنم ويحيعلون وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويؤتون الزكاة متى وجدوا ويحجون البيت إذا استطاعوا ويصومون شهر رمضان ويحبون الصلاة ولكن يقولون هذه الدواب تنجسنا وإذا اجتعلنا أيضا تنجسنا أهم كفار أم مسلمون؟ فسكت النبي e وانقطعت عن الكلام، فقال أبو بكر وعمر نكتب لك بهذا كتابا لا ينسى فسكت ولم أدر ما شغلني عن القول لهما يكتبان لي ذلك”[69].
7 الأحلام وتعدد المذاهب:
وأكثر هذه الرؤى غرابة مما له صلة بالتعدد المذهبي، ما نسب إلى فقيه حنفي جليل القدر هو أبو بكر بن يوسف المكي، وأنه رأى يوما كأن القيامة قامت فحضر الأئمة الأربعة بين يدي الله، أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، فخاطبهم الله سبحانه وتعالى قائلا: ” إني أرسلت إليكم رسولا واحدا بشريعة واحدة فجعلتموها أربعا، رددها عليهم ثلاث مرات فلم يجبه أحد. فقال أحمد بن حنبل يا رب أنت قلت وقولك الحق لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا. فقال له تكلم فقال يا رب من شهودك علينا؟ قال الملائكة، قال يا رب لنا فيهم القدح، وذلك أنك قلت وقولك الحق” وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” فشهدوا علينا قبل وجودنا، فقال الباري جلودكم تشهد عليكم، فقال يا رب كانت جلودنا لا تنطق في الدنيا وهي تنطق اليوم مغصوبة، وشهادة المغصوب لا تصح، فقال الباري جل جلاله أنا اشهد عليكم، فقال يا رب حاكم وشاهد، فقال الله تعالى اذهبوا فقد غفرت لكم”[70].
هذه رؤيا عجيبة من حيث طبيعة الحجاج من قبل البشر في حضرة الباري عز وجل، وهي تعكس ما كان يدور في خَلَد الفقهاء من تساؤلات أصلا ولا سبيل إلى الإعلان عنها إلا بعرض رؤيا على هذا النحو، كما أن الغفران الوارد في نهاية الحجاج يمنح الاختلاف شرعية وإن فضل عليه الاتفاق لا الخلاف. ومن العجب أن يكون الإمام أحمد بن حنبل هو المتصدر لهذا الحجاج مع الله سبحانه، بينما كان الإمام أبو حنيفة أليق بهذا الدور، ولعل في هذا غمز بأن الجدل أصل في الفكر كله وأن الادعاء بالنصية ليست سوى استراتيجية لدحض حجج الخصم.
ومن الرؤى المتعلقة بالمذاهب والتي تكشف جدلا حول الموقف منها وتقييمها، ما روي من رؤيا متصلة بالفقيه الصالح عبيد بن أحمد الترخمي (ت:694هـ) وأنه كان ذات ليلة يسير في طريق فورد على مفترق طرق فيه ثلاثة اتجاهات، فتحير أي الطرق يسلك ثم اختار الوسطى فلما صار فيها لقيه رجل فقال: ” أتدري ما الطريق قلت لا، قال أما الكبيرة فطريق ابن حنبل والوسطى طريق الشافعي والثالثة طريق مالك”، وقد توقفت الرؤيا هنا دون الإبانة عن سبب إهمال طريق أبي حنيفة، رغم أنه كان حاضرا في اليمن بمدارسه وعلمائه. والأكيد أن الرؤيا دعمت المذهب الشافعي باعتباره وسطا بين الوسع والضيق، وهو المذهب الغالب في اليمن، وهذه الرؤيا تعززه وتدعم رؤاه، وهكذا تم التعامل معها وإلا لما استحقت التواتر والتدوين.
وبعض الرؤى كان حاسما للشك في الأمور المشكلة مثل الصلاة على منتحر، فقد أفقر الجود رجلا وأتلف جميع ماله، ثم أخذ في الاستدانة ليواصل كرمه مع الناس فركبه من ذلك دين كبير، عجز عن سداده، فسمع من بعض الدائنين كلاما فاحشا كان سببا لشنق نفسه، ثم ثار سؤال حول جواز الصلاة عليه بوصفه منتحرا. وقد حُل الإشكال بما نقل عن بعض أخيار مدينة عدن وأنهم رأوا في المنام النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من أصحابه أقبلوا للصلاة عليه، وقد شك أحدهم في هذه الرؤيا واستبعد أن يأتي النبي للصلاة على مثل هذا المنتحر، لكنه بعد ذلك أغفى قليلا فسمع صوتا يقول له: ” لا تَفُتْكَ هذه الجنازة”، فقام وشيع وصلى[71]. ومع ذلك فإن النقاش حول غفران الله سبحانه لهذا المنتحر ظل قائما حتى حسم برؤيا أخرى رأتها أخت للمنتحر، وصفت بالصلاح، فرأت أباها المتوفى قبل أخيها في المنام، فسألته عن سبب زيارته لها فأجاب: ” منذ وصلنا أخوك نحن في ملازمة الله تعالى أن يغفر له جنايته على نفسه فلم يفعل ذلك إلا بعد مشقة شديدة وإشراف على اليأس من ذلك”[72]. وبهذه الرؤيا التي أخبرت عن المصير الأُخْرَوي للمنتحر المذكور هدأت النفوس طابت الخواطر.
- 8 الأحلام وصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ولا سبيل لنكران وقوع الرؤى على هذا النحو أو ذاك، ومنها رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المنام، إلا أن رؤيته في حال اليقظة من الغرائب التي وردت في عقود الخزرجي، والرواية متصلة بفقيه مغمور عُرِّفَ فقط بالفقيه صالح، كان يقرأ كتاب “تفسير النقاش” في حلقة علم خاصة بالفقيه أبي عبد الله محمد الجِعْميم المتولي لشرح ما يقرأ الفقيه صالح، ورُوي على لسان صالح هذا أن الفقيه الشارح (الجعميم) كان ينعس في أثناء القراءة، ويغلب الظن أنه لا يسمع، فأراد صالح مرة أن يتوقف عن القراءة ليختبر حضور الفقيه معه في حالة النعاس تلك، وإذا به يرى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع الفقيه الجعميم، ثم التفت إليه النبي يأمره: ” اقرأ يا صالح”، ثم أخذ يقرأ ولم يسكت بعد ذلك. وللرواية بقية وهي أن الفقيه الجعميم فتح عينيه إثر ذلك وتبسم له، ولم يفهم معنى تلك البسمة[73]. وبما أن هذه ليست رؤيا في المنام، بل مشاهدة للرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فإنها – بغض النظر عن الدخول في مناقشة صدقية المشاهدة للرسول صلى الله عليه وسلم – تفيد أن الفقهاء كانوا ينعسون في أثناء القراءات، وهي أحوال بشرية مفهومة تحدث دائما، لكن كيف يُعْتَذَر للنعاس يحدث وقت الدرس، إلا إذا قيل إنه ليس نعاسا وأنه غيبة قصيرة للاستمتاع بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، عند ذاك لا يكون هناك سبب لا للوم الفقيه على نعاسه ولا لاختبار حضور وعيه مع الدارسين، وهي كما نرى أحوال تكشف عن عقلية مستعدة لشرح كل شيء على نحو خرافي مؤسس باسم الدين.
- 9 الأحلام ودنو الأجل:
واعتقد الناس بالرؤى التي فهموا منها أنها تخبرهم بدنو الأجل، ومن ذلك رؤيا لفقيه قال إنه رأى سقف بيته ينكشف حتى رأى السماء ثم نُودي منها باسمه واسم أبيه وطلب منه القدوم بترحاب، وكان الفقيه مريضا فعلم أن أجله قد دنا، ثم توفي بعد ذلك، وهي رؤيا تقع في سياق المعقول، فالرجل مريض وانتظار الموت حاصل، ولم تكن الرؤيا أكثر من تعبير عن الانشغال بالفكرة كما هو معتاد في حياة الناس جميعا. ومثل ذلك ما نسب للفقيه عبد الله بن محمد المكرم (ت:695هـ) وتمكنه من تحديد يوم وفاته بالضبط بناء على رؤيا حدّث بها زوارا له وقال إنه بقي له خمسة أيام وسيموت، ثم سأل كيف عرف ذلك فأخبر أنه: ” رأى الحق في غفوة نهار الأمس فَهَمَّ أن يتعلق به فقال له بعد ست، وفهِّمَ أنها ستة أيام وقد مضى يوم وبقيت خمسا، فكان الأمر كما قال”[74].
وهناك رواية أخرى على هذه الشاكلة تكشف مزيدا من أفهام الناس حول رؤاهم وعلاقتها بالإخبار بالأجل، من ذلك ما رواه الخزرجي نقلا عن الجندي وأن أحد الفقهاء أسَرَّ إليه بأنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يقبِّل ما بين عينيه، وأنه بعد هذه الرؤيا لا يظن أنه سيعيش، وآية ذلك أن فقيها آخر هو ابن نُباته حصلت له الرؤيا نفسها ورأى النبي يقبِّل ما بين عينيه فلم يعش بعدها إلا اثني عشر يوما، فكان ما توقع الرجل ومات بعد عشرين يوما. ولم تكن الرؤى المخبرات بالموت مما يختص به الشخص نفسه، بل هناك رؤى تحصل عند شخص يراها إخبارا بموت شخص آخر، روي هذا عن فقيه حضرمي رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ليلة موت الفقيه جمال الدين أبي العباس أحمد بن علي العامري، أما تفاصيل الرؤيا فهي أن صاحب الرؤيا رأى في منامه فقهاء يعرفهم بأسمائهم ومعهم جماعة لا يعرفهم، فلما سأل عنهم أجيب بأن هذا ” رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر “، وأنهم جاؤوا في طلب الفقيه جمال الدين، فاستيقظ الرائي من نومه وإذا به يعلم بموت الفقيه جمال الدين[75]. وشبيه بهذا ما روي عن الفقيه أبي بكر الحميري (ت:646هـ)، وكيف فسر رؤيا لأحد أصحابه رأى فيها حماما يطوف فوق رأس الفقيه وبينها طائر مميز غاب عنهن بعدئذ، فقال الفقيه ” أنا الطائر والحمام أصحابي، استعدوا للموت.. فتوفي بعد أيام قلائل[76].
والخلاصة أن الأحلام والرؤى شكلت حيزا معتبرا من الذهنيات العامة ومنحها الناس سلطة معرفية واسعة، وقامت بوظائف اجتماعية في حياتهم.
10 الكرامات الخارقة والتبرك بالناس والقبور:
الكرامة، كما يتم تداولها في كتب التراث، وصف لفعل أو واقعة غير منضبطة بمنطق عقلي، أو هي خرق لمألوف الناس وعوائدهم، تشيع بين العامة مُصَدَّقَةً ومدهشة، وهي أيضا تصورٌ مُسقط على إمكانيات الفعل الخارق المؤسَّس على التدين والتقوى، ولذلك ارتبطت بفقهاء أو علماء دين يرفعهم الناس في حياتهم أو بعد موتهم إلى مرتبة الأولياء. وقد يسهم الفقهاء في إشاعة أخبار عن كرامات خاصة بهم لتأدية وظيفة اجتماعية، هي غالبا إخضاع أنفس بسطاء المؤمنين لسلطة الفقيه للانتفاع بذلك الخضوع بأشكال شتى. ويمتلأ التراث الإسلامي بكرامات متنوعة[77]. فما هو نصيب القرن السابع في اليمن من هذه الكرامات كما تظهر في كتاب العقود قيد القراءة؟ سنحاول فيما يلي استعراض نماذج منها، لنرى أن تداولها لم يكن شأن العامة كما قد يظن بل تعاطاها الفقهاء وأهل الصلاح خاصة.
11 معرفة ما في الضمائر:
ومن الأمور التي عدها الناس كرامات معرفة ما في الضمائر، وردت هذه الكرامة في سياق زيارة قام بها الفقيه ناجي المرادي، (ت:629هـ) لأحد أصحابه (الشيخ عمران المسن، صاحب ذُبْحان) فخرجت معه جماعة فأمَّروه عليهم ووضعوا زادهم ودراهمهم مع أحدهم فلقيهم فقير سألهم شيئا: “فقال الفقيه للذي يحمل زادهم أعطه درهما فأعطاه”، ولم يرض بعضهم بهذا لكنه كتم ما في نفسه، فصورت الرواية أن الفقيه اطلع على ضمائر القوم، وأن فقيرا جاءهم وقت صلاة العصر فصافحهم ودس في يد الفقيه عشرة دراهم: ” فالتفت الفقيه إلى أصحابه وقال هذه حسنتكم قد عجلت لكم لما تغيرت نياتكم”، فاندهشوا لاطلاع الفقيه على نياتهم واستغفروا الله عن ذلك.[78]
12 نور الوجوه ورائحة القبور:
وشبيه بهذا رواية عن الفقيه أبي بكر الحميري السابق الذكر وأنه كان زاهدا لا يأكل إلا من حقله الخاص ولا يُلبِس نساءه إلا ما نسج من قطنه تحرجا عن استخدام قطن آخر ربما غصبه الملوك عن أهله، وقد ذهبوا في تبجيل زهده إلى حد القول إنه كان ينير المسجد إذا دخله: “حتى إن الذي يطالع في الكتاب يجد النور على كتابه فيرفع رأسه ليرى سبب ذلك فما يرى إلا الفقيه”[79]. وشبيه بهذا أيضا ما روي عن قبر الفقيه الصالح أبي الحسن الأصابي الذي أمضى حياته في التدريس وعندما مات حمل على أعناق الرجال ودفن بجوار المدرسة، ثم طَوّح الخيال الشعبي الموقِّر لسير العابدين والزاهدين فذكروا أن الزائر يجد عند قبره: “رائحة المسك خصوصا ليلة الجمعة”.[80]
13 الانتقال الخاطف بين الأمكنة:
ومن الكرامات ما ارتبط بتصوير القدرة الخارقة لبعض البشر في الانتقال بين الأمكنة البعيدة بسرعات خرافية، وخاصة لتأدية فريضة من فرائض العبادة كالحج أو الصلاة، ورد ذلك في رواية متصلة بالفقيه سعيد بن منصور الذي تصفه الرواية أنه: ” كان في نهاية من الزهد والورع والعبادة مع الاشتغال بالقراءة”، ونسبت للرجل كرامات كثيرة، منها أنه رُؤي في الحج وكان الذي رآه رجل من الصالحين أيضا، فلما عاد الرجل الصالح إلى اليمن زار الفقيه، وكان ذلك بُعيد عيد عرفة، وكان في جمع من الناس فذاكره عن الحج قائلا: ” يا سيدي رأيت ما أحلى الحج هذه السنة؟”، فرمقه الفقيه بنظرة مؤداها أن اسكت فإن القوم لا يعلمون أني كنت في الحج، وأنهم لو علموا لتساءلوا كيف يحج وقد كان بينهم. ففهم المخاطِب الأمر وصمت. ولما انفض المجلس سأل الرجل الصالح الفقيه: “سألتك بالله يا سيدي إلا ما أخبرتني فيه كيف تفعلون هل هو طيران أم خطو أم ما ذلك؟. فقال الفقيه هو شيء لا يستطيع تكييفه وإنما هو قدرة من قدرة الله تعالى يختص برحمته من عباده وبالله التوفيق”[81]. هنا نرى الفقيه -حسب الرواية- لا ينكر هذا الانتقال الفجائي بل يؤكده ويراه خصيصة له اختصه الله بها، وهو بيت القصيد، فالذي تدور حوله روايات من هذا القبيل شخص مبارك، يلقى شهرة ويبدأ العامة الاعتقاد به وبكراماته وبأعاجيب أفعاله، كما تبدأ النذور والهدايا في الوفود إليه، وهكذا يغدو حملة العلم بوابات واسعة للخرافات العامة طالما كانت الخرافات بوابات رزق واسعة أيضا.
إن فكرة الخطو عبر الأمكنة البعيدة أو الطيران الخاطف للأشخاص من الأفكار المُرَسَّخة في المجتمعات الإسلامية قاطبة ولعل في الناس إلى يومنا من لم يتحرر بعد من تراكمات القرون التي شكلت ذهنية مستعدة لتَقْبَلَ ألوانا من الأخبار الخارقة وتخضع لها في الوقت نفسه. وفي هذا من التسفيه للعقل الإسلامي ما يجرح عقلانية الإيمان والدين بما لا يحتمل.
فكرة الخطو والطيران عبر الأمكنة بالذات مما يستعصي على أي عقل قبوله، ولذلك كانت إحدى معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم حين أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لكنها كانت معجزة لتأييد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولها ذكر صريح في كتاب الله عز وجل، ومع ذلك فلم تُصدَّق بسهولة، وافتتن ناس كثير عن دينهم بعدها، أما أن تتحول هذه المعجزة إلى سابقة يدّعي مثلها بعض البشر لنفسه لإخضاع أفئدة العامة وقلوبهم له فهو مكر وخرافة.
14 التبرك بالناس والأشياء:
ويعد التبرك بالناس والأشياء من نتائج ثقافة الكرامات التي رُسّخت بين الناس لتدل على انتشار الجهالة بين القوم، عوامُهم وخواصُهم. فقد تبرك الناس بمن رأوه صالحا ورعا عالما، ومنهم الفقيه الصالح يعقوب التربي (ت:681هـ) الذي وصف بأنه كان على طريق الورع الكامل: “يزار للتبرك وينتفع به”. ومن بين الذين زاروه للتبرك به الملك الرسولي المظفر، وعندما يكون رأس القوم ساع إلى بعض الصالحين للتبرك بهم فلا تثريب على العامة إن قلدوا كبراءهم، وكان على دين ملوكهم، ومن ذلك ما وقع لقاض زار أسرة تاجر متوفّى، ففرح به الأولاد وأدخلوه البيت للتبرك به، ثم علموا أنه جاء ليكشف لهم عن وديعة كان أبوهم التاجر، دون علمهم، قد أودعها عنده أمانة واثقا من حفظها بسبب ورع القاضي، فلما كَبُر الأولاد ورشدوا زارهم القاضي لأداء الأمانة لكنهم أدخلوه أولا بقصد التبرك به[82]. وشبيه بهذا ما روي عن محمد بن عبد الله الحضرمي فقيه زبيد ومفتيها وأنه أيام تحصيله العِلم كان على حال متبلبل، وتشتبه عليه المسائل، فلما تتلمذ على يد الفقيه علي بن إبراهيم انقلب حاله وفهم كُنْه المسائل من أول يوم، فقد عرضها جميعا على خاطره وزال إشكالُها وتبين له خطؤها وصوابها، وأن كل ذلك إنما كان ببركة الفقيه علي بن إبراهيم، والشاهد هنا أن يحصل له الوضوح في المسائل من أول يوم، وهو سر البركة وإلا لقلنا إن الأستاذ بارع في عرض المسائل وشرحها وجلاء غموضها.[83]
ولا يقتصر الأمر على الأحياء بل جعلوا للموتى كرامات أيضا، والغريب أن تتصل الرواية بفقيه من الهاشميين هو يحيى بن محمد السراجي، وكان على المذهب الزيدي، المعتمد فكر المعتزلة الذي لا يقر كرامات لا للأحياء ولا للموتى. وكان ابن عُجيل (الآتي ذكره)، وهو من رؤوس الشافعية البارزين في وقته، كان من أساتذته المشهورين، فتعلم على يديه في تهامة قبل أن يدّعي الإمامة، ثم عوقب من قبل الأمير الرسولي في صنعاء بالتّكْحيل، أي بإفقاده بصره. ومع ذلك استمر يعلم في أحد مساجد صنعاء وتأتيه النذور حتى تُوفي وقُبر في مسجد الأجذم. وذكر الخزرجي: ” أن قبره من أجلّ المزارات الصنعانية يتبرك بالدعاء عنده وتستنجح عنده الحوائج فتقضى”. وزاد بعضهم فذكر أن رائحة المسك تفوح من قبره ليلتا الاثنين والجمعة.[84]
15 فقيه نافر من الكرامات:
ومن بين جميع الروايات المتصلة بالفقهاء وأهل العلم هناك رواية يتيمة لفقيه كبير القدر وعالم جليل هو الفقيه أبو العباس أحمد بن موسى الشهير بابن عُجيل. وهو من أبرز علماء اليمن لهذه الفترة (ت: 690هـ)، وحاز على أوصاف فخمة تكريمية، فهو “قطب اليمن وعلامة الشام واليمن”، وهو “إمام من أئمة المسلمين”، وقد تقدم على معاصريه بدقة نظره في الفقه وبإيضاح غوامضه، وكان إماما في الفقه والأصول والنحو واللغة والحديث والفرائض وأنه ” أحسن من ضبط الفنون وقرت بمذاكرته العيون”. وله شروح وحواش عديدة، “وكانت الملوك تصله وتزوره وتعظم قدره وتقبل شفاعته ويريدون مسامحته بما يجب عليه من الخراج السلطاني فلا يقبل ذلك ويقول أحب أن أكون من جملة الرعية الدَّفَّاعة”[85].
وتفيد الرواية أن هذا الفقيه كان له موقف ناقد من الكرامات والتبرك بالأشخاص، ويفرق بين كرامات يراها لائقةً بالأولياء وأخرى يراها نقصًا في الدين، إذا اتصلت ببعض من كان لا يرى فيهم أهْلِيةً لما يدّعوه من كرامات. وهذه الرواية تعد كُوَّةً صغيرة نطل منها على الموقف مما كان يشاع من كرامات، وأنها كانت مدخلا غير لائق لوجاهة اجتماعية يتم توظيفها للحصول على هبات ونذور من العوام، العوام الذين يتقربون بتلك النذور والهبات من صاحب الكرامات التماسا للحماية عنده من أي مكروه.
ولأن الفقيه ابن عجيل قد وصف بأنه “قطب اليمن وعلامة الشام واليمن”، وأنه “تاج العلماء وختام أهل الحقائق”، وأنه كان “ورعا زاهدا غواصا على دقائق الفقه موضحا لغوامضه”، فقد أكبره الناس وفق ما درجوا عليه من طرق إكبار وتبجيل تنتهي بهم إلى الاستسلام والخضوع ورجاء العون، ولذلك تعلق الناس بابن عجيل للتبرك والحماية، رغم أن الرجل لم يدَّع كرامةً ولم يقبل بما يلقاه من تبجيل ولا رضي بتعلق الناس به، بل رأى في كل ذلك جهلا أكيدا. أما الناس من حوله فقد لاموه على عدم إظهار كراماته، فأجابهم بأن بعض الكرامات نقص، وهو يريد أن يلقى الله بإناء ملآن. لقد كان مثالا للعالم الورع في وسط مشبع بذهنيات خرافية. ومن أمثلة ورعه رفضه أن يُعفى مما عليه من واجبات شرعية تجاه الدولة تقديرا لمكانه، وأحب أن يكون، كما نقل عنه: “من جُملة الرعية الدَفَّاعة”. وأوضح مثال على علم هذا الرجل الصحيح البعيد عن الخرافات موقفه من تبجيل الناس له وهو في مكة، فقد كان متى ما دخل مكة تكالب الناس للسلام عليه وتقبيل يده واشتغلوا بذلك عن أي شيء آخر، فإذا ذهب إلى المدينة تكالب عليه الناس أيضا للسلام والتبرك به وهو يدفعهم عنه بالقول: “اتقوا الله هذا نبيكم وهؤلاء صحابته وإنما أنا رجل منكم فلا يزداد الناس إلا إقبالا عليه”. لكن الخيال الشعبي لم يقبل منه هذه المواقف الإيمانية العقلانية، بل صوّر أن نوره كان يطغى على نور الكعبة وهو ما يدفع الناس للتعلق به أكثر[86].
كل هذه المشاهد تنهض أدلة على ما تم تشكيله من ذهنيات خرافية باسم الدين، حتى إذا برز عالم صحيح العقل نافر من الخرافة، عجز عن مقاومة الذهنيات الخرافية، فلينظر العاقل إلى ما صنع المسلمون بدينهم، والله المستعان على الجهل والخرافة في أمته.
وأغرب الكرامات، بل أكثرها خرافية ما رُوي عن الفقيه إسماعيل بن محمد الحضرمي، وهو من أكابر العلماء، تفقه على يديه خلق كثير وبرز منهم فقهاء وعلماء، وولي قضاء الأقضية وأخباره منتشرة في غير مصدر. وهذه الكرامات التي نستعرضها هنا متصلة به مما لم يروه الخزرجي بل اليافعي في مرآة الجنان، لكنها من خرافات القرن السابع قيد العرض. روى اليافعي أن سِدرة نادت الفقيه إسماعيل الحضرمي والتمست منه أن يأكل هو وأصحابه من ثمرها، وأنه شفع في قوم سمعهم يعذبون في المقابر، وأن الكعبة شوهدت في الليل تطوف بسريره في حال يقظة المشاهد، وأنه أمر الشمس بالوقوف فوقفت حتى بلغ داره، وكان ذلك في آخر النهار[87]. أي أنه أوقف الشمس ليستضيء بنورها حتى بلغ داره فغربت. ويضيف اليافعي أن هذه الكرامة مما شاع في بلاد اليمن وكثر فيه الانتشار. ولعل أصلها مجرد شائعة أنتجها الخيال الشعبي، فشاعت بوصفها كرامة. لذلك نعجب من هذه الذهنيات الخرافية التي تم صياغتها في عقول المسلمين باسم الدين، وهو الذي يشيد بالألباب والعقول، ويدعو للتفكر والتأمل بمنطق علمي خالص.
16 الأصوات الغريبة وتغيير المصائر:
وكان للتهيؤات والأصوات الغريبة حضور آمر في الخيال الشعبي، ومنها ما رُوي عن سبب تفقه وصلاح الشيخ الصالح أبي الغيث ابن جميل (ت:651هـ) الذي حاز لقب “شمس الشموس”، وكان في الأصل قاطع طريق، ثم اعتلى ذات يوم شجرة يرقب المسافرين لينقض عليهم، ثم روي أنه سمع صوتا يقول: “يا صاحب العين عليك العين”، فرأى في هذا الصوت أمرا بالتوبة، فكان ذلك الصوت البداية التي حولت حياته وجعلته شيخا صالحا مقبول الإشارة مسموع القول[88].
ولم يكن في وسع كتّاب ذلك العصر ومنهم الخزرجي أن يُحللوا نفسيا ما كان ربما يدور في ضمير هذا اللص وأنه ربما أرهقته أفعاله القبيحة، وكان يبحث عن خلاص من ذلك ليعود إلى طريق الخير. ثم إن هذا الاستعداد لسماع أصوات واستلهام معان منها، بل ومنحها سلطة آمرة واجبة النفاذ، هو ما يهمنا في تصوير الذهنيات العامة لهذه الفترة.
17 المسحة على الصدر والبصاق في الفم:
واعتقد الناس بسحر المسحة على الصدر وبفعل البصقة يبصقها الفقيه في فم غيره فتحدث ما تحدث من بركات وخوارق. ورد ذلك في خبر الفقيه الصالح المشهور أبي الخطاب الهمداني (ت:663هـ)، حين كان ما يزال يأخذ العلم عن غيره، فذكر أنه حج ذات عام: ” فمر في طريقه بالشيخ أبي الغيث ابن جميل فسلم عليه وسأله أن يمسح له على صدره ولما ودعه سأله أن يبصق في فيه فبصق له”[89]، ثم سافر مطمئنا إلى بصقة في صدره فيها الترياق الشافي والخير العميم.
وشبيه بهذا ما روى عن بصقة أخرى، لكنها ليست لفقيه فاضل أو شيخ صالح هذه المرة، بل لطائر أخضر وقف على كتف أحمد بن علوان الذي صار بعدئذ ذائع الصيت ولا يزال. وابن علوان هذا كان في أول أمره ولدا مُدللا أرعن كسائر أبناء الكتّاب كما يرد في الرواية، وكان أبوه كاتبا عند الملك الأيوبي المسعود ابن الملك الكامل فحرص على تعليمه القراءة والكتابة والنحو، ثم أراد الانتقال من قريته يُفْرُس إلى تعز، عاصمة الرسوليين بعد ذلك، طلبا لوظيفة هناك، وفي الطريق جاءه الطائر الأخضر فوقف على كتفه ومد منقاره إلى فمه وصب الطائر فيه شيئا ابتلعه أحمد بن علوان وعاد إلى قريته واعتزل الناس أربعين يوما، ثم خرج وجلس على صخرة يتعبد فتحوّلت الصخرة كفًا وسمع صوتا يقول له: صافح الكف، فيسأل كف مَن هذه فيجيب الكف بأنها كَفُّ أبي بكر الصديق، فيصافحه ويقول له أبو بكر: ” قد نصبتك شيخا”.
بعد هذا الحدث تتغير أحوال ابن علوان ويصير شيخا صوفيا عارفا بالله مشهورا ومحبوبا من الناس واسع الجاه بينهم، وله كتب في الصوفية والوعظ ولقب: “بجوزي اليمن”، وله أيضا أشعار سياسية يحث فيها السلطان الرسولي الأول نور الدين عُمَر بن علي بن رسول على العدل وحسن السيرة. وقد أشار إلى ذلك الخزرجي وأثبت بعض أبيات بهذا المعنى ووصفه بأنه كان: ” آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ولا يخاف في الله لومة لائم”، ونسبت إليه كرامات كثيرة تكشف مزيدا من واقع ذهنيات القوم لتلك الفترة في اليمن، ومنها أنه كان يتكلم بلغات كثيرة، وقيل في تفسير ذلك إن روحه كانت: “مهبطا لأولياء الله ولهم لغات كثيرة يتكلمون بها على لسان الشيخ فينطق بها” كما يقولون[90].
ولا يزال ذكر ابن علوان مِلئ الأسماع في معظم أنحاء اليمن، وبعض العامة يحلف باسمه وتقدم له النذور، وقبره مشهور مزار إلى اليوم، ويقع في يفرس جنوب تعز. وقد اهتم به المعاصرون وحققوا له بعض الكتب وأخذت المسحة الخرافية تنقشع عن شخصه لصالح تصور واقعي عقلاني يظهر فيه ابن علوان عالمًا صوفيًّا جليل القدر له نظر وتأليف في توحيد الله وأسرار الملكوت، وله مواقف سياسية من حكام عصره وأدائهم السياسي.[91]
18 الخرافات الزاجرة:
وهناك روايات لها صلة بزجر الناس عن الحرام وأخذ ما لا حق لهم فيه، فقد روي عن الفقيه أبي عبد الله الحسين بن علي بن عمر (ت: 680هـ) أنه باع شيئا من الحبوب التي كان يأخذها أجرا لتدريسه في إحدى المدارس، ثم ربط الدراهم التي باع بها الحبوب في طرف ثوبه، فلما احتاج الرجل لشراء شيء فتح الربطة فوجد بدل الدراهم عقارب، فنفضها عن ثوبه وحرّم على نفسه بعد ذلك أخذ طعام المدرسة[92]، وهي رواية خرافية كما نرى، إلا أنها تكشف مستويات التفكير لذلك الوقت وعلاقته بمعاني الحلال والحرام والتعجيل بالعقاب في حال حدّث الإنسان نفسه أن يأخذ شيئا من مال غيره، رغم أن الفقيه في هذه الرواية لم يرتكب إثما، بل تصرف بحقه وحوَّل الحبوب إلى دراهم، فوجد العقاب سريعا، وفق الرواية، وهو ما يكشف سمة مؤثرة من سمات الثقافة السائدة ترى في التطلع إلى الحصول على الدراهم تعبيرا عن الرغبة في الإقبال على الدنيا، وهو أمر ممقوت كما صورته الصوفية وكتب الزهد، ولا يزال لهذه السمة الثقافية حضورا على مستوى الفكر إلى الآن، وإن تحرر الواقع كثيرا من أسر الذهنيات الخرافية المرتبطة بذلك.
19 العلاقة بالجن:
ومن مكونات الذهنية الخرافية، الاعتقاد بحضور عجيب للجن في حياة الإنس، ونحن هنا لا نود الدخول في جدل حول وجود الجن من عدمه، فالجن مذكورون في القرآن وهذا يكفي، لكن الجدل متشعب وطويل حول طبيعة وجودهم وعلاقتهم بعالم الإنس. وينقسم المنشغلون بهذا الأمر إلى مؤيد[93] لوجود الجن وفق التصورات الشعبية السائدة، ولوجود علاقات متداخلة للجن مع الإنس وهو بهذا يؤسس لمصداقية ما يروى من أخبار حول تلك العلاقة، وهناك النافي لوجود الجن على النحو الشائع شعبيا، والمفرق بوضوح بين الإيمان بوجود الجن وفق مفهوم آخر لهذا الوجود، وبين المفهوم الخرافي الشائع بين الناس، ويؤسس للحكم على ما يروى من أخبار بالخرافة والبَلَه العقلي[94]. وبما أنه لا وجود لأي دليل علمي حقيقي لا قديم ولا معاصر يدعم الروايات المتعلقة بصلات الجن بالإنس، وأن ما يقدم من شروح إنما هي تأويلات قابلة للنقض، فإنه لابد من التعامل مع الروايات ذات الصلة باعتبارها معتقدات خرافية وجزءًا من ذهنية عامة تختزن الخرافة بوصفها واقعا تتصوره وتتعايش معه وفيه، وهو ما يهمنا في استعراض محتويات الذهنية العامة لهذه الفترة.
أ – محكمة الجن:
من ذلك ما أورده الخزرجي متصلا بالفقيه الإمام العلامة أبي الحسن علي بن أحمد الأصبحي (ت: 703هـ)، صاحب كتاب “المعين”، و”غرائب الشرحين وأسرار المهذب”، ومن انتهت إليه رياسة العلم في زمنه، وغدا حجة على أهل زمانه، وتتصل به كرامات ومكاشفات كثيرة لم تذكر في الكتاب. وقد روى الخزرجي ما وقع له مع قوم من الجن، كما قال، وأنه خرج مرة لتفقد أرض له فوجد الحارث هناك يحرث بالثيران، فسأله إن كان لديه ماء للشرب، فأشار الحارث إلى ناحية من الحقل فذهب الفقيه إلى هناك ووجد عند الماء ثعبانا ضخما فقتله، ثم لم يلبث أن وجد نفسه في: ” أرض لا يعرفها بين أقوام لا يعرفهم لهم خلق غريب وفيهم من يقول للفقيه قتلت أخي وبعضهم يقول قتلت أبي وبعضهم يقول قتلت ابني”، وهذا معناه أن الجن خطفته إلى ديارها بعد قتله الثعبان، ولم ينقذه من فزعه العظيم إلا شخص (لم يُعَرَّف) دَنَا منه وهمس في أذنه أن يقول: “أنا بالله وبالشرع”، فقال الفقيه وكرر، ثم تغير المشهد ووقف الجميع أمام محكمة للجن، يرأسها شيخ منهم على هيئة الرخمة البيضاء[95] وقد قعد على منصة مرتفعا عن الجميع لسماع الدعوى والإجابة. وبدأت المحاكمة فادعى جماعة من الجن أن الفقيه الأصبحي قتل أخاهم أو أباهم، ولم يتركه الشخص الغريب الذي دنا منه أولا، فدنا ثانية وهمس في أذنيه أن يقول: “أنا ما قتلت إلا ثعبانا”. ثم أصدر قاضيهم حكما ببراءة الأصبحي مستندا إلى حديث سمعه عن النبي محمد بأذنيه وفيه: “من تشبه بالهوام فلا قود عليه ولا دية”[96].
وبعد هذا الحكم من قاض وصحابي من أهل الجن، يجد الفقيه نفسه ثانية حيث كان في الحقل، وحيث قتل الثعبان، ثم يبدي الحارث استغرابه من غيبته الفجائية ثم من حضوره ثانية فجأة، فلا يجيب الأصبحي.
تظهر هذه الرواية طبيعة الاعتقاد حول العلاقة بالجن وقدرتهم على تغييب الأشخاص فجأة وإحضارهم مرة أخرى فجأة، كما حدث للفقيه الأصبحي، لكن الرواية تفيد أيضا إمكانية الخلاص من الجن، خلاصا لا يتأتى إلا بالعلم الشرعي والتفقه والزهد، وهكذا تكون هذه الرواية شهادة لورع الأصبحي وتقواه، ولذلك قُيِّض له شخص في ساعة فزعه تلك ليخلصه مما هو فيه.
ويجدر أن نلفت الانتباه إلى أن الرواية لا تنقل عن الفقيه الأصبحي مباشرة، بل بالسماع المتواتر (وقيل)، لكن كتّاب العصر كما نرى لم يستنكفوا تدوينها دلالة على يقينهم بحدوثها أو إمكانية حدوثها على الأقل، لأنها من مألوفات ذهنية عصرهم. ولنا أن نتصور طبيعة الذهنية العامة من خلال تداول حكايات مع الجن كهذه، لتأكيد وجود علاقة بين الإنس والجن على هذا النحو وللإخبار بطرق الخلاص ومنها القول: ” أنا بالله وبالشرع” كما أخبر منقذ الأصبحي المجهول في بلاد الجن.
ب – تتلمذ فقهاء الجن على فقهاء الإنس:
ويبدو أن الخيال الشعبي قد جعل تقمص الجن للثعبان هو الشائع، فهذه رواية أخرى يوردها الخزرجي نقلا عن الجندي بشأن الفقيه الحسن ابن القاضي الحميري (ت: 667هـ)، وأنه كان شديد الاجتهاد في طلب العلم ويرتحل لأجله، ومن بين رحلاته واحدة قام بها إلى جهات الفقيه ابن الهرمل ليسمع منه رواية حول شروح كتاب “التنبيه” وصفت بأنها قريبة السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما وصل إليه أخذ كل يتعلم من الآخر، الحسن الحميري يتعلم من ابن الهرمل شروح التنبيه، وابن الهرمل يسمع من الحسن الحميري ” كتاب البيان”، ثم روي أن الفقيه الحميري وهو في موقع التدريس كان يرفع رأسه بين الفينة والأخرى إلى السقف فيرى ثعبانا مخرجا رأسه في هيئة المصغي إلى أن ينتهي الدرس ثم يختفي، ثم أخبر مضيفه بما شاهد، فقال له الفقيه ابن الهرمل بهدوء وبساطة: ” هذا رجل من فقهاء الجن قرأ عليَّ التنبيه والمهذب وهو الذي سألني أن أسألك إسماعنا البيان”[97]. ولم تفصل الرواية بأي لغة قدم فقيه الجن طلبه، ولا سأل أحد كيف لم ينتقل فقيه الجن هذا إلى مجلس الفقيه الحميري ويسمع منه هناك، طالما والفكرة المرتبطة بالجن مقدرتهم على التشكل والحركة بلمح البصر.
هذا يعني أننا أمام ذهنيات تتلقى فقط وتخاف أن تلقي الأسئلة كي لا يصيبها مس، وهو ما يكشف بعدا آخر من أبعاد تشكيل الذهنيات الخرافية المؤسس على التخويف من السؤال، لأن السؤال كان ولا يزال مفتاح العلم: ” فالعلم خزائن ومفاتيحها السؤال” كما جاء في الحديث[98].
ج – جيش من الجن يفك حصار السلطان الرسولي:
ومن الجن ما كان أصله بشريا فصيرته التربية جنيا، يرد هذا في رواية متصلة بالسلطان الرسولي (المجاهد) الذي اتصف عصره بالنزاعات الداخلية بين الطامحين إلى الحكم، فحدث أن حوصر في حصن تعز وأخذت آلات المنجنيق تقذف بحجارتها الحصن ومن فيه، ونسبت الرواية لجارية كانت في الحصن أيام الحصار، فروت كيف أن الملك المجاهد كان يغير أمكنة إقامته ليلا ونهارا تفاديا لحجارة المنجنيق، وأنه ذات ليلة جلس في موضع بعد أن فرغ من وضوئه وكانت أمه بجانبه وإذا بجدار من جدر الحصن ينشق ويخرج عنه غلام تام الخلقة له شعر مظفور إلى آخر ظهره (دبوقة)، ثم انكب ذلك الغلام على السلطان المجاهد فحمله من موضعه إلى موضع آخر، وسط دهشة الجميع وفزعهم مما يرون، ثم سقطت إثر ذلك مباشرة قذيفة منجنيق أصابت الموقع الذي كان الملك المجاهد قاعدا فيه. أدرك المجاهد أنه أنقذ من موت محقق، فالتفت إلى الرجل يسأله عن صفته، فأجاب الغلام المنقذ: ” أنا والله أخوك حقيقة وأبي والله أبوك داود المؤيد وأمي الجارية فلانة ولكني أخذت من بطن أمي فربيت مع الجن حتى صرت كما ترى، ولما رأيت أن هذا الحجر قاتلك لا محالة حملتك عن ذلك الموضع محبة لك وشفقة عليك”. وقد أكدت والدة الملك المجاهد رواية الغلام الجني وذكرت لابنها الملك أن جارية لأبيه كانت حاملا وتشرف على الوضع ثم أصبحت ذات يوم وقد مُسخ ولدها من بطنها وكأنها لم تكن حاملا ولم يظهر لحملها أثر بعد ذلك. ولم تقف قصة الغلام الجني عند هذا الحد، فقد أخبر أخاه الملك بأنه اتفق مع القائد العسكري للحصن على القتال ضد المحاصِرين في اليوم الفلاني، فلماء جاء ذلك اليوم وقع القتال بين الفريقين: ” فأثروا فيهم أثرا ظاهرا على قلتهم وكثرة العدو، وما هو إلا بقتال قوم آخرين والله أعلم”[99].
وفي عبارة والله أعلم خاتمة للرواية من قبل الخزرجي، وهي نادرة، ما قد يفيد شك الخزرجي بقتال الجن مع الملك المجاهد أو ربما شكه في إمكان اكتساب البشر لصفات الجن، إذ كل مخلوق من طينة غير الأخرى حسب المعرفة المتواترة، والغلام، وإن تربى مع الجن، يبقى بشريا في قدراته، لكن إطلاق مثل هذه التساؤلات، كما ذكرنا، ربما أخافت مُطلقيها، ولذلك لم تكن واردة وإلا لما رويت كل تلك الأخبار الخرافية على أنها وقائع حية.
وهذه الرواية بالذات وقد اتصلت بنزاع سياسي تسمح بتفسيرها في إطار الحرب النفسية كما يقال اليوم، فإشاعة أخبار عن موقف الجن من النزاع السياسي بين المجاهد وخصومه، بل عن وجود حِلف بفضل أخ له بشري في دنيا الجان، ما يعزز حصول هذا الحلف، ومن ثم فإن إشاعة مثل هذا الخبر لاشك يبلغ أثره عند قوم بذهنيات مستعدة لتقبل هذه الأخبار بجدية عميقة، وأن القتال في اليوم الموعود لا شك جاء وقد سرت هذه الشائعة وفتَّت في عضد المحاصِرين وعزائمهم، وهي من الحيل السياسية التي استخدمت لإضعاف قوى الخصم وإخضاعه بجبروت قوى خارقة في خدمة الحاكم إلى وقت قريب، أي إلى ما قبل ستينيات القرن المنصرم، كان يطلق على الإمام أحمد ملك اليمن ” أحمد يا جِنّاه” ورويت عنه أخبار أنه يستخدم الجن لمعرفة خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ لضمان ولاء أتباعه ظاهرا وباطنا؛ ولإخافة خصومه كي لا تسول لهم أنفسهم التحدث بشرّ عنه، كما نشر حوله خرافة أن الرصاص لا يؤثر فيه، وعليه لا خير، والحال هذه، من الإقدام على أمر لا أمل في إمضائه بنجاح.
هذا معناه أن الحكام هم الأوفر حظا من واقعية عالية وهم الأدرى بما يشيعونه من أخبار لتشكيل الذهنية التابعة المستسلمة لهم. وعليه فقد استغل المجاهد الرسولي الثقافة الشعبية السائدة بنجاح لفك الحصار عن نفسه.
ثالثًا- خلاصه وتحليل:
والخلاصة أن القرن السابع الهجري في اليمن شهد حركة علمية أفرزت مجموعة كبيرة من العلماء والفقهاء والمتصوفة، وكانت الدولة الرسولية صاحبة فضل في هذه الحركة، بتشييدها المدارس وترتيب الوقف الضروري لاستمرارها وتقريب العلماء وتكريمهم، وقد استمر هذا الزخم العلمي حتى مطلع القرن العاشر الهجري. ورغم الاهتمام الواضح بالعلم الشرعي في هذا القرن إلا أن غالب مداره كان في استيعاب القضايا المطروقة والسائدة وفهمها وتدارس إشكالاتها وتأويل نصوصها وكتابة الشروح والحواشي حولها أو تقديم تآليف أيسر تناولا أو أشمل للقضايا الخلافية المثارة في الكتب المتداولة، ولم تذكر أية إضافات علمية حقيقية تجب ما قبلها وتؤسس لفكر شرعي جديد أو تؤصل لتطور فارق مختلف عما قبله. وقامت الشهرة على مقدرة الفقيه أو العالم استيعاب علوم الأوائل وجلاء غموضها أو الوقوف على دقيق معانيها، بل وعدم الخروج عن روايات (أفهام) من سبق من الشيوخ والرواة. وهناك شواهد على سيادة التقليد وهيمنته، فقد أورد اليافعي في “مرآة الجنان” نص إجازة (شهادة علمية)، عن الفقيه إسماعيل بن محمد الحضرمي (ت:677هـ)، بخط يده، وهو من العلماء البارزين وله تآليف كثيرة في الفقه وغيره، وفيها يقر الفقيه إسماعيل أن الولد المحبوب إبراهيم بن محمد بن سعيد قرأ عليه: ” التنبيه في الفقه بقراءته، وقراءة غيره، وقد أجزت له روايته بروايتي عن والدي رحمه الله بروايته عن الإمام العالم العابد محمد بن كُبَانة بروايته عن الإمام العالم يحيى بن عطية بروايته عن الإمام محمد بن عبدويه، عن المصنف، وقد أجزت له روايته عني، وأن يروى عني جميع ما يجوز لي روايته من كتب الحديث والتفسير والفقه”[100].
في هذه الإجازة تشديد على ضرورة الالتزام بفهم واحد أو برواية واحدة هي الرواية التي تواترت إلى الفقيه إسماعيل ويجيزها الآن لأحد تلامذته، كما فيها تأكيد لدوران العلم الشرعي حول استيعاب وفهم ما أُلف في القرون السابقة كما تواترت إليهم دون تبديل أو اجتهاد. وقد أنكر معاصرو الفقيه إسماعيل الحضرمي سالف الذكر اجتهاده في مسألة فقهية لم يجد لها نصًا في كتب الفقه المتداولة، ونابذوه طويلا، على جلالة قدره، ولم يرفع عنه اللوم إلا بعد وفاته حين وقف أحد أقربائه على نص للمسألة في الكتب المتداولة.[101] وباستثناء ما حصل من اجتهادات عند أئمة المذهب الزيدي وفقهائه في اليمن بحكم الأصل المعتزلي للمذهب والتشديد على مبدأ الاجتهاد وبحكم الاتصال الوثيق بين الزعامة المذهبية والسياسية، فإن الحراك العلمي الحاصل في العالم الإسلامي، على مثال ما جرى في اليمن في القرن السابع، إنما يعكس ركودا في العقلية الإسلامية تعكس هي الأخرى ركودا اجتماعيا مأتاه أن النص الشرعي أخذ يتداخل مع المجتمع الإسلامي في أول نشأته حتى تشابك الاثنان في القرون التالية ودخل كل في إهاب الآخر، ولم يصل القرن الرابع إلا وقد تحددت معالم المجتمع الإسلامي وفق النص الشرعي بشكل نهائي، فأخذ كل يعيد إنتاج الآخر في القرون التوالي في تحالف مكين. ولذلك لم يعن تضخم أعداد الكتب بشروحها وحواشيها ومختصراتها زيادة حقيقية في أصل المعرفة أو تطويرها، بل أكدت ركود النص والمجتمع، وكل كان عينا يقظة على الآخر، ولذلك تم الإنكار على كل محاولة تمردت على السياق المتوارث، بل ولا يزال هذا التحالف القائم بين النص والمجتمع بإطاره العام على الأقل قائما إلى اليوم، لولا أن النص الشرعي المتوارث يواجه تحديا حقيقيا في العصر الحديث بحكم التحولات المجتمعية العميقة التي قادت إلى تمردات مجتمعية لم تعد تسعها النصوص القديمة و تحتاج إلى مراجعة جذرية لإقامة أسس تحالف جديد بين النص والمجتمع.
أما فيما يخص الذهنيات العامة فلابد من التنويه أولا إلى أن الخرافات والخوف من عالم الخفاء قاسم مشترك بين أمم الأرض جميعا، وكانت ولا تزال ثمرة جهل الإنسان بما يحيط به وخوفه مما يتصوره موجودا على نحو آخر وبقدرات خارقة.
لكن المؤسف أن تؤسس خرافات المسلمين على دين عقلاني النزعة، يطالب بالحجاج العقلي وبالتبصر والتدبر والتفكر والتعقل في الأمور كلها، بل إن الإيمان بالله لم يكن إلا خلاصة عقلية لحجاج منطقي متماسك. فكيف تسنى للمسلمين أن يحولوا علاقتهم بالكتاب والسنة إلى أرضية بُني عليها كل هذا الكم من الخرافات في طول العالم الإسلامي وعرضه؟ ولا ريب أن قدرا كبيرا من إجابة هذا السؤال يكمن في سيادة فهم مشوّه للآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة التي سردت معجزات الأنبياء وأتت على ذكر الجن والشياطين، لكن أحوالا أخرى ساعدت في إشاعة هذا الفهم المشوه ومنها جهل السواد الأعظم من المسلمين بشؤون دينهم، وانشغال العلماء المتأخرين بصغائر الأمور وفروعها، ويعد الموقف من الفلسفة وإهمال العلوم البحتة أو العقلية بين أهم أسباب تواتر العقلية الخرافية، لأنها علوم تدرب العقل على سبك الحجج كما في الفلسفة، وتقوم على التجريب والمنطق كما في العلوم الطبيعية مع استمرار التصويب لمسارها، وهي بطبيعتها تلك تصوب العقل العام وتقوم منطقه وتطور أدوات بحثه، وهذا ما تم فهمه في هذا الزمان بعد كل هذا الهجر الطويل للعقل ودوره. ويرى الإمام الغزالي (ت:505هـ)، أن كثرة الانكباب على العلوم الشرعية والاهتمام بصغائرها عائد لما تحققه هذه العلوم من ربح ومكانة وسلطة للفقهاء، خاصة فقهاء ما بعد القرن الثالث والرابع الذين لم يضيفوا شيئا إلى البناء الفكري الضخم الذي شيده علماء القرون الأولى، بالإضافة إلى إهمال واضح للعلوم البحتة ومنها الطب، يقول الغزالي: ” فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة.. ثم لا نرى أحدا يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون بالفقهاء” [102]. وقد قدم الغزالي تفسيرا لإهمال العلوم البحتة ومنها الطب، وهو: ” أن الطب لا يتيسر به الوصول إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء”[103]. وهو قول خبير معاصر، مدرك لبواطن الأمور، كما أنه قول لم يبلَ رغم توالي القرون، ولا يزال يصلح تعليلا لما تلا الغزالي من أزمنة، ليشهد على ركود اجتماعي وعقلي في آن واحد. فإن كان هذا حال الطب مع الحاجة إليه اجتماعيا فكيف بباقي العلوم الأخرى من فلك ورياضيات وجغرافيا ونبات وغير ذلك من العلوم التي لا تتيسر للمرء بسهولة ولا مما يحتاج إليه الناس كافة، وعليه فإن عزوف الناس عن العلوم العقلية الأخرى إنما رسَّخ عقلية تقليدية مشوشة بخرافات متنوعة، وكشف طبيعة المشهد العلمي الجاهل بأهمية العلوم العقلية التي طورها العلماء المسلمون وبلغوا بها مرتبة عالية من التحقيق والتجريب والإضافات العلمية الرائدة، إلا أن من الواضح أنها لم تكن من العلوم الشعبية، بحكم موضوعاتها العلمية المجردة، ولذلك اقتصرت على القلة من العلماء والأسر العلمية، ولم تسهم إنجازاتهم في صقل عقلية منطقية عامة، بالإضافة إلى مساهمة العقل الإسلامي الشرعي في تجذير ثقافة شعبية تُهَوِّن من قيمة العلوم البحتة، وتمنح علوم الشرع مقاما أرفع من مقام العلوم البحتة، فالغزالي مثلا، رغم شكواه السالفة، واصل الإسهام في الحط من شأن العلوم العقلية بوضعه علم الفقه وكافة العلوم الشرعية في مقام أعلى من مقام الطب، وبرر ذلك بمرافعة طويلة يمكن أن تعد تأصيلا شرعيا لأولوية العلوم الشرعية على حساب العلوم الأخرى التي – وإن عدها من العلوم المحمودة ومما يرتبط بها صلاح الدنيا – إلا أنها ليست في منزلة العلم الشرعي المحمود كله بحكم ضرورته لحياة المسلم الذي ينبغي أن يلتفت كلية إليه كي يعبر به الدنيا التافهة إلى دار الخلود[104]. ويروى عن الإمام محيي الدين النووي (ت:677هـ)، وهو إمام شافعي عالي الذكر، موقف مشابه من علم الطب؛ فقد كان في طور تعلمه الأول منفتح العقل ويقرأ كل يوم اثني عشر درسا في فنون مختلفة، وكان يستوعب كل ما يقرأه من شرح مُشكِل وإيضاح عبارة وضبط لغة، ورأى ذلك بركة إلهية وعونا، ثم خطر له الاشتغال بعلم الطب: ” فاشتريت القانون، وعزمت على الاشتغال فيه، فأظلم عليّ قلبي، وبقيت أيامًا لا أقدر على الاشتغال بشيء، ففكرت في أمري من أين دخل عليّ الداخل؟ فألهمني الله أن الاشتغال بالطب سببه، فبعت في الحال الكتاب المذكور، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب، فاستنار قلبي ورجع إليّ حالي، وعدت لما كنت عليه أولًا”[105]. عندما يروى هذا القول على لسان الإمام النووي وهو من هو في العلم والمقام فلنا أن نتصور الثقافة السائدة وأثر مثل هذه المواقف على العلوم البحتة. فالطب كان سبب إظلام قلبه وعادت إليه الاستنارة بعد أن باع ” القانون “، كتاب ابن سيناء في الطب، وهو الذي أخذت به جامعات أوروبا ودرسته قرونا في جامعاتها، ولا تزال تصدر حوله رسائل دراسات عليا إلى اليوم. ولا شك أننا سنتفهم لو قيل إن طبيعة عقل الإمام النووي لم تستسغ الطب، فهذه أحوال بشرية مألوفة، أمّا ربط إظلام القلب بالاشتغال بالطب، فيُعَدّ انعكاسا لقناعات سائدة، وتوجيها تربويا عاما، وتصويرا للطب بأنه مُذهب لبركة العقل، البركة التي استردها النووي بمجرد بيع كتاب القانون وإخراج كل ما له علاقة بالطب من داره. ولم يترك السخاوي (ت:902هـ)، واضع سيرة النووي، هذه الرواية بلا تعليق، بل أصَّلها بافتراض وقوع اعتراض على رأي الإمام النووي في الطب واستشهد بما نقل عن الإمام الشافعي محمد بن إدريس وأنه يقسم العلم إلى علمين ” علم فقه للأديان وعلم طب للأبدان”، وردَّ بأن مقصود الشافعي هو الطب النبوي المجرد عن أصول الفلاسفة التي صرَّح صاحب القانون في أوله بابتناء الطب المورد في كتابه عليها، وأن الطبيب يتعلم ما يبنى عليه من العلم الطبيعي، ولذلك اعترى الشيخ رحمه الله بمجرد عزمه على الاشتغال في الكتاب المذكور ما أشار إليه”[106]. نحن إذن أمام محتوى لثقافة شرعية لها موقف من العلم الطبيعي لا تكتفي بتفضيل العلم الشرعي، بل بالارتياب في العلم الطبيعي والتحذير منه. والسخاوي الذي تفصله عن روايات كتاب الطب النبوي ثمانية قرون، لم ينظر إليه على أساس التجربة البشرية في حدودها الزمانية والمكانية، بل رآه الأصل وفيه الكفاية، وما عداه مُظلم للقلب بحكم اتصاله بأصول علم اليونان العقلية وبعلم الطبيعيات. لكن السخاوي، وقد تأول قول الشافعي في الطب المقصود، لم يهمل الإشارة إلى ما يخالف تأويله، فأورد رأيا عن الفقيه المحدث حرملة بن يحيى (ت: 243هـ) فيه أن الشافعي كان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: “ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى”[107]. وفي هذه الرواية يبرز إدراك الشافعي لأهمية الطب العقلي التجريبي، لأن ما بيد اليهود والنصارى ليس الطب النبوي قطعا، بل طبا تجريبيا بحدوده المعرفية والزمنية، وهذه الرواية التي تشهد للشافعي بإدراكه لأهمية الطب من وجه، تكشف من وجه آخر قِدَم الإهمال الذي لاقاه الطب والعلوم البحتة الأخرى، وهو إهمال أخذ يتراكم بل ويؤصل شرعيا عبر القرون. وقد توارث أهل اليمن هذه المواقف في العصر الرسولي وكره بعضهم علم الطب وعَدَّه مزعزعا للإيمان ونسبوا المشتغل به إلى الزندقة والخروج عن الدين، وهو حال المشتغل بكتب المنطق أيضا، كما وصف قوم بأنهم حادوا عن الطريق لاشتغالهم” بكتب المنطق والميل إلى اعتقاد أصحاب الطبائع”، أو الخروج عن المذهب لمعاناتهم علم الطب ومذهب الحكماء، كما وصف قوم آخرون.[108]
ولولا همة الحكام الرسوليين في الاهتمام بالعلوم البحتة، لما عرف أهل اليمن هذه العلوم، إذ التفت كثير من ملوك الدولة الرسولية إلى العلوم الطبيعية فبرزوا فيها وألفوا كتبا مهمة ذات وزن علمي هي محط اهتمام متزايد من قبل الدارسين ومحققي المخطوطات في أيامنا هذه (المركز الثقافي الفرنسي بصنعاء مثالا). حتى مع ظهور شكوك مبررة على أن بعض المؤلفات أو أجزاء منها لم تكن من تآليفهم، بل من تآليف علماء آخرين أعانوهم عليها، أو طولبوا بإنجازها لهم، فإن ذلك مدعاة لتقديرهم وتبجيلهم كونهم رغبوا في الفخر بنسبة أعمال علمية إليهم، وهكذا تنقلب تلك الشكوك دليلا على تقديرهم للعلم وأهله ورغبتهم في أن ينافسوا فيه ويكونوا من أهله رغم مشاغل الحكم.
ومن أبرز الملوك العلماء الملك المظفر يوسف بن عمر (ت: 694هـ)، فقد ألف في الفلك والحرف المختلفة ومنها صناعة المداد والألوان، كما كتب في علم السياسة أيضا، يليه الملك ولده الأشرف بن يوسف الذي ألف في الفلك والطب والبيطرة والزراعة وعلم النجوم، ثم يأتي الملك المجاهد (ت: 764هـ)، الذي ألف في البيطرة وتوسع في كتاباته عن الخيل، كما كتب في الجغرافيا والزراعة وفي علم الحرف وفي الحروب وفي العطور كما كتب عن الطبخ أيضا. وللملك الأفضل اهتمامات علمية وكتبا في التاريخ والتراجم وله مخطوط مشهور يشبه الموسوعة وقد نشر هذا في لندن عام 1998م. وهذه مجرد أمثلة لاهتمامات ملوك الدولة الرسولية ويمكن العودة إلى قوائم مؤلفاتهم لمعرفة المساحة العلمية التي أهمتهم وأبرزها العلوم الطبيعية.[109]
وهم باهتمامهم بهذه العلوم الطبيعة قد سدوا نقصا في الصورة العلمية لتاريخ اليمن الوسيط يشكرون عليه، لكن غياب هذه التخصصات عن المدارس العامة واستيعابها وخدمتها من قبل طلاب العلم، يبقى أمرا محيرا وموضع نقد نبرزه هنا بجلاء تام، ويبدو أن هذه الحيرة تزول حين نستذكر ما طورته عقلية العلم الشرعي من خصومة مع العلم الطبيعي جعلت حكام بني رسول وهم أهل الحل والعقد يتهيبون نشر هذا المعارف بين العامة، والدليل ما تعرض له السلطان المظفر الرسولي من النقد حين أراد تعلُّم المنطق على يد الفقيه شمس الدين البيلقاني القادم من بلاد فارس، فقد أثار وجوده بين أهل العلم نزاعا حادا سببه مجافاة أهل اليمن للمنطق وعدم الاشتغال به.”[110]
وما استعرضناه من مواقف رافضة للعلم الطبيعي، وهي تروى عن أعيان وعلماء شرع، إنما تحط من شأن العلم العقلي التجريبي، العلم الذي نعلم اليوم يقينا بأنه المدخل الأساس للقوة المادية والحضارة، وأن جذور تخلفنا وهواننا على أنفسنا وعلى الناس إنما تكمن في الموقف من العلوم العقلية التي أتاحت لغيرنا سبل التطور والهيمنة. إن الاختلال الذي حصل بين العلم الشرعي والعلم الطبيعي، لصالح العلم الشرعي أضعف تأثير مناهج العلوم البحتة على عقلية المسلمين الكلية، لأن العلوم البحتة – والأمر هنا عام ولا يقتصر على اليمن- لم تلق من الاهتمام والشروح والمختصرات والإشاعة المجتمعية ما لقيته العلوم الشرعية، فتركت جل ساحة العلم وقفا على العلوم الشرعية. وفي اليمن كان هذا الاختلال قائما أيضا في القرن السابع، رغم تبني سلاطين بني رسول لعلوم الطب والفلك والزراعة والبيطرة وظهور مؤلفات تحمل أسماءهم في هذه الميادين[111]، وحرصهم على استقدام علماء الطبيعيات إلى اليمن، كما فعل المؤيد الرسولي حين استقدم عام 720هـ، عالم الهيئة والهندسة الأمير بدر الدين حسن المختار: “العارف بعلوم الأوائل من الهيئة والهندسة وعلم المجسطي وكان مشاركا في كل فن وضاربا في كل علم بنصيب”[112].
ومع ذلك فالواضح أن هذا الاهتمام بالعلوم البحتة من قبل الرسوليين ظل ظاهرة جزئية لم تتسع اجتماعيا ولم تؤسس لثقافة علوم طبيعية نشطة تخرج علماء في فنون العلم الطبيعي، لأنها فنون لا ينفع معها التواتر والتقليد فما يتم تجريبه ويثبت خطؤه يقتضي البحث والتجريب والاستقصاء، وهي آليات التطوير لكل علم، وهناك قدر ضئيل من مؤلفات العلوم البحتة في الفلك والزراعة وعلم الحساب بلغت عشرين مؤلَّفا في قرنين وثلث[113] هي كل حياة الدولة الرسولية، بما في ذلك كتب الطب والفلك المنسوبة لبعض سلاطين بني رسول، وفيها الشروح والمختصرات لكتب أصلية. وللتدليل على الاختلال الحاصل بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة، نشير إلى أن شروح ومختصرات وشروح شروح “القانون” لابن سيناء بلغت (49) عملا في ثمانية قرون[114]، بينما بلغت الشروح وشروح الشروح ومختصرات الشروح والحواشي والمختصرات والتخريجات التي دارت حول كتاب الفقه “التنبيه” المؤلف في القرن الخامس الهجري، بلغت (134) عملا خلال خمسة قرون[115].
ومع كل هذا الجهد في تدارس مصنفات العلوم الشرعية لم يتأسس عقل إسلامي عام يخترق الجماعات والأفراد ويجعل من واجباته الأساسة خدمة العقل العام ليتعلم إخضاع رؤاه وتأملاته وأفكاره لمنطق علمي متحرر من الخرافة والأوهام.
لقد توارث المتأخرون خلافات الأوائل ومواقفهم حتى في الخرافة وفيما لم يعد له سند تاريخي مثل: “قضية خلق القرآن” كما مر. وهناك تاريخ طويل للخرافة المؤسسة على ثقافة دينية مشبعة باللاعقل واللامنطق تم توارثها أيضا، لذلك لا غرابة أن تشيع تأويلات خرافية تؤسس لعالم الخفاء بجنه وشياطينه وعلاقته بالإنسان من مَسٍّ وتَلَبُسٍّ وتَشَّكُّلٍ وسواه، عالم اقتضى وجود وسطاء من بني البشر يلتمس بهم النجاة وعندهم الأمان، فزعم البعض امتلاكه سبل لجم الجن والشياطين وتحييد عدوانيتهم وشرورهم المتصورة، فكانت الكرامات البشرية هي المعادل الموضوعي لما أشيع من قدرات الجن والشياطين الخارقة، وهي (الكرامات) التي عبرت بالنفس البشرية حاجز الخوف إلى بر الأمان المنشود. ولا تستقيم الكرامة إلا إذا أسست على الدين، فالله هو الحامي وهو الملاذ الأصل، والوقوف بين يدي الله بعلم شرعي للتوسل والعون أفضل من الوقوف بين يديه بجهل وقلة حيلة، ولأن الجهل هو الغالب ولأن العامة محاصرة بالخرافة والخوف فهي من ثم الأكثر حاجة للوسيط البشري تفزع إليه وتعوذ به للتوسل والأمان، ولابد أن يكون فقيها، عالما حاز العلم الشرعي أو قدرا منه كي يدفع عالم الخفاء بما هو أقوى منه، كتاب الله وسنة نبيه. وهكذا قام الارتباط بين العلم الشرعي والخرافة، وخلقت الوظيفة الاجتماعية للعالم المسلم بكراماته المدهشة، وهو الذي يراه عامة المسلمين قادرا على استعمال القرآن والسنة في فض الخصومات وتقسيم الإرث وعقد الزواج ولجم الجن أيضا وإشفاء المريض وتقييد الشياطين أو إخراجهم من حيث حلوا في أجساد البشر كما يزعمون.
ولابد والحال هذه أن يتم الحفاظ على هذه الوظيفة الاجتماعية المربحة[116]، وأن يتم التنافس على إخضاع أنفس المؤمنين البسطاء لسلطة الفقيه والعالم، وأقصر الطرق هو تأكيد حالة الخوف بتأكيد وجود عالم الخفاء الشرير وإشاعة الأعاجيب عن كرامة هذا وفعل ذاك من الفقهاء والعلماء، لذلك لا غرابة أن تتأصل تلك الخرافات على أساس الكتاب والسنة، كما تشير إلى ذلك مؤلفات كثيرة في هذا الباب، فإن عُذِر الأولون لبساطة تجاربهم وغياب شروط العلم الحديث في أفهامهم تلك، فلا عذر للمعاصرين الذين يخرجون كتبا عن خرافات الجن والشياطين، ويعتمدون فيها على أقوال قديمة ضاربين بعرض الحائط ما أحدثه العلم المعاصر من صحوة عقلية. وأحدث هذه الكتب صادر عام 2004م، حسب علمي، وعنوان الكتاب: “الجن وعلاقتهم بالأنس، دراسة في ضوء الكتاب والسنة”. والكتاب يعتمد على أفهام عقول سلفت لم تكن ترى وتسمع وتجرب وتفكر على النحو الذي يعمل به العقل العلمي المعاصر، ويخلص معتمدا عليها، دون نقد علمي وأسئلة عصرية، إلى الإقرار بوجود كل أشكال العلاقة المتوارثة والمتوهمة مع الجن. ولعل كثرة الكتب المؤلفة حول الجن والشياطين حديثا والتعويل على تأويلات خرافية قديمة معادة بإهاب علمي معاصر ليشهد أننا لا نزال نعصرن القديم بعلاته ونسيء إلى ديننا الحنيف العقلاني والعلمي في حجاجه وتحديه. ومع ذلك لم يخل الفكر الإسلامي من عقل رصين في هذا السياق، إذ يعد المعتزلة من فرق الفكر الإسلامي الرافضة للخرافة بسبب احترامها لسلطة العقل في كل شأن. ولذلك كان حال الخرافات في مناطق المذهب الزيدي المؤسس على الفكر المعتزلي أقل حضورا منه في مناطق المذهب الشافعي، وهو ما يعكس أثر الفكر في تشكيل البيئة المحيطة على نحو عقلاني وإقصاء التصورات الخرافية عن الذهن، لأن الفكر هو وحده الخالق للخرافات أو الملغي لها. ومن بين الكتب الكثيرة حول عالم الجن والشياطين، وجدت كتابا واحدا بعنوان “أبناء آدم من الجن والشياطين”، والكتاب يقدم تفسيرات وقراءات جديدة لنصوص الكتاب والسنة باتجاه تحرير العقل المسلم من خزعبلاته لصالح دين إسلامي عقلاني نقي من الخرافات والطلاسم،[117] وقد لا يوافقه الكثيرون على آرائه وخلاصاته، لكنها على الأقل تشير إلى الاتجاه الصحيح في كيفية تحرير عقل المسلم من الأسر الذي وضع فيه.
- خاتمة:
استعرض هذا البحث صورتين، في تاريخ الدولة الرسولية من خلال كتاب الخزرجي العقود…، الصورة العلمية ثم صورة الذهنيات العامة التي تشكلت من مجموعة من الخرافات، وما وصف بالكرامات، وحاولنا في الخلاصة تحليل العلاقة بين الصورتين، وتوصلنا إلى أن التشابك بين هاتين الصورتين سببه سيادة شكل من أشكال العلم الشرعي المتواتر دون نقد، فضلًا عن معاداة العلوم العقلية والفلسفية، وهو ما أفضى إلى ركود في العقلية العلمية، وإلى التقليد رغم كثرة ما ظهر من مؤلفات ومختصرات للكتب المتداولة في موضوعات مختلفة، كما أبرز تحليل التشابك بين العلم الشرعي والخرافات ظهور وظائف نافعة للخرافات السائدة، تمثلت في استفادة بعض رجال الدين منها من خلال تحولهم إلى ملاذٍ يعوذ بهم العامة لتجنب أذى القوى الشيطانية الخفية، ولأن بقايا تلك الذهنية الخرافية لا يزال قائما إلى اليوم، فإن التركيز على دراسة تلك الذهنيات، أصولها وأسباب انتشارها، يعين على تفهم دور العلم التطبيقي والتفكير الناقد في ترسيخ عقلانية صارمة في حياة المسلمين، تماشيا مع عقلانية الدين الإسلامي الأصل.
قدم هذا البحث في مؤتمر الدراسات الآسيوية والأفريقية، ونشر ملخصه في أعمال المؤتمر ذاته المنعقد في لويزيانا- أمريكا، في سلسلة المونوجراف بواسطة مؤسسة
Association for Asien and African Studies 2011 NAAS
([1]) الخزرجي، علي بن الحسن: العقود اللؤلوية في تاريخ الدولة الرسولية، ج1، تحقيق محمد بن علي الأكوع، منشورات مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، دار الآداب، بيروت، الطبعة: الأولى، 1983 م.
[2] انظر مثلا مادة “سَيْر”، وهي من مراكز العلم في اليمن، أوردها ياقوت في معجمه وذكر من نسب إليها من الفقهاء وأشهر مصنفاتهم، وهي تدور أيضا حول كتاب “البيان” وكتاب “المُذْهب” وغيرها من الكتب. الأكوع، إسماعيل بن علي، (تحقيق): البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1988م، ص 157-158.
[3] قارن، الأكوع، إسماعيل بن علي: المدارس الإسلامية في اليمن، (منشورات جامعة صنعاء) دمشق، دار الفكر، 1980م، ص 9.
[4] انظر: الحبشي، عبد الله محمد: جامع الشروح والحواشي، أبو ظبي، المجمع الثقافي، 2004م. الكتاب مرتب حسب الأحرف الهجائية ويمكن الرجوع إلى الصفحة بتتبع أوائل حروف الكتب المشار إليها.
[5] هو يحيى بن أبي الخير بن سالم بن اسعد بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عِمران (العِمراني) ولد في ” مصنعة سَيْر”، الواقعة قديما في مخلاف صبهان من أعمال إب، وكانت مركزا من مراكز العلم، ويرجى عدم الخلط بين النسبة (العِمراني)، وهي نسبة ابن أبي الخير، والنسبة إلى مدينة عمران (العَمْراني) بفتح العين، الواقعة شمال صنعاء. انظر سيرته مفصلة في:ابن سمرة الجعدي: طبقات فقهاء اليمن، تحقيق فؤاد سيد، بيروت، دار القلم، (د. ت)، ص174-210.
[6] الأسنوي، عبد الرحيم (جمال الدين): طبقات الشافعية،، ج2 بيروت، دار الكتب العلمية، 1987م. ص 257.
[7] صورة الشعر واحدة في التراث الإسلامي، وموضوعاتها مكررة، ودراستها بلاغيا وفنيا يخرج عن موضوع هذا البحث، وكمثال على صورة الأدب في القرن السابع، يمكن الرجوع إلى كتاب، خواجي، مجدي بن محمد: محمد بن حمير الهمداني، شاعر الدولة الرسولية في القرن السابع، بيروت، مؤسسة الرسالة،2001.
§ فيما يتعلق بسير العلماء والاقتباسات عنهم سنكتفي بإحالة واحدة إلى الجزء والصفحة بدل التوقف والإحالة عند كل اقتباس تحاشيا للتكرار، وقد لزم التنبيه.
[8] الخزرجي، ج 1، ص 49.
[9] الخزرجي، ج1، ص 57.
[10] الخزرجي، ج1، ص 58.
[11] الخزرجي، ج1، ص 60.
[12] الخزرجي، ج1، ص 71.
[13] الخزرجي، ج1، ص 130.
[14] الخزرجي، ج1، ص 234.
[15] قرية خاربة اليوم، تقع على السفح الغربي لجبل صبر المطل على تعز، وكانت قديما قصبة المعافر ومركزا علميا مرموقا. الأكوع، البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي، ص 69.
[16] الخزرجي، ج1، ص 241.
[17] الخزرجي، ح1، ص 222.
[18] الخزرجي، ج1، ص 72
[19] الخزرجي، ج1، ص 180.
[20] الأكوع، المدارس الإسلامية في اليمن، ص 7.
[21] قرية كبيرة تقع في أعلى وادي نخلان في مديرية السيّاني بمحافظة إب، وهي على مقربة من جبلة ويشرف عليها حصن التعكر من شمالها الغربي، انظر: المقحفي، إبراهيم: معجم البلدان والقبائل اليمنية، ج1، صنعاء، دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع، 2002م. ص 70.
[22] الخزرجي، ج1، ص 188.
[23] الخزرجي، ج1، ص 196.
[24] الخزرجي، ج1، ص 244-245.
[25] الخزرجي، ج1، ص 73.
[26] منطقة تقع إلى الغرب من صنعاء، وتبعد عنها نحو نيف وستين كيلومترا، انظر، الأكوع، معجم البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي، ص 90.
[27] جبل مشهور يقع في المحويت، في الغرب الشمالي من صنعاء، ويقال له اليوم جبل حَبِشْ، المقحفي، ج1، ص 247.
[28] بلدة ذكرت ضمن بلدان محافظة حجة، وتعرف اليوم باسم قرية ” الملحة” وتقع في الغرب الشمالي من مدينة حجة. المقحفي، ج2، ص 1454.
[29] الخزرجي، ج1، ص 97.
[30] الخزرجي، ج1، ص 100.
[31] قرية تقع في الغرب الجنوبي لمدينة تعز، وهي على ربوة هناك وتعرف اليوم باسم قرية المدرسة، وفيها قبر أول سلاطين بني رسول في اليمن. الأكوع، المدارس الإسلامية في اليمن، ص77. المقحفي، ج2، ص 1822.
[32] الخزرجي، ج1، ص 123.
[33] الخزرجي، ج1، ص 133.
[34] الخزرجي، ج1، ص 140.
[35] الخزرجي، ج1، ص 149.
[36] الخزرجي، ج1، ص 149.
[37] كان للمذهب الحنفي وجود ظاهر في زبيد في هذا القرن وله فقهاؤه وأتباعه، وكان يأتي في المرتبة الثانية بعد المذهب الشافعي. انظر،: ابن المجاور الشيباني الدمشقي: تاريخ المستبصر، ليدن، مطبعة بريل، 1951م. ج1، ص88.
[38] الخزرجي، ج1، ص 141.
[39] واد مشهور في مخلاف صهبان من أعمال إب، كان فيه قرية سير ومصنعة سير وهما اليوم خراب ومكانهما شمال شرق الجند. الأكوع، البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي. ص 157.
[40] الخزرجي، ج1، ص 206.
[41] ذكر ابن المجاور وجود اتباع للمذهب الحنبلي في نواحي الجبال، تاريخ المستبصر، ج1، ص88.
[42] الخزرجي، ج1، ص 150- 151.
[43] الخزرجي، ج1، مطبعة الهلال، مصر، 1911م، ص 173
[44] الخزرجي، ج1، ص 156.
[45] الخزرجي، ج1، ص 178.
[46] الخزرجي، ج1، ص 179.
[47] الخزرجي، ج1، ص 224.
[48] الخزرجي، ج1، ص 248.
[49] الخزرجي، ج1، ص 271.
[50] الخزرجي، ج1، ص 81.
[51] الخزرجي، ج1، ص 176.
[52] الخزرجي، ج1، ص 218.
[53] الخزرجي، ج1، ص 191
[55] الخزرجي، ج1، ص 218.
[56] قرية من نواحي جبأ في بلاد المعافر- جنوب تعز.
[57] الخزرجي، ج1، ص 223.
[58] الخزرجي، ج1، ص 52.
[59] الخزرجي، ج1، ص 52-53.
[60] مؤلف مجهول من القرن السابع: تاريخ الدولة الرسولية، تحقيق عبد الله الحبشي، صنعاء، دار الجيل، 1984م. ص18.
[61] الخزرجي، ج1، ص 51.
[62] الخزرجي، ج1، ص 85.
[63] الخزرجي، ج1، ص 136.
[64] الخزرجي، ج1، ص 137.
[65] الخزرجي، ج1، ص 142.
[66] الخزرجي، ج1، ص 148.
[67] الخزرجي، ج1، ص 177.
[68] طلاق التنافي نوع من الطلاق دار حوله جدل بين الفقهاء، وهو ربط الرجل لطلاقه زوجته على طلاق قبله بالثلاث، كأن يقول الرجل لامرأته ” متى وقع عليك طلاقي، أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم قال لها أنت طالق”، هذا هو الذي سمي طلاق التنافي وقد اختلف فيه. انظر: العمراني، يحيى بن أبي الخير: البيان في المذهب الشافعي، ج10، جدة، دار المنهاج للطباعة والنشر، 2000م، ص2019. ويمتلئ الجزء العاشر من كتاب البيان بمناقشة أنواع من الطلاق، وكلها تعكس الأحوال الاجتماعية وعلاقة الرجل والمرأة، وتوقف الفقهاء عند أنواع من الطلاق المشروط، أو أقوال تعسفيه يتفوه بها الرجال أمام زوجاتهم ثم يطلبون رأيا فقهيا حول ما قالوه، وهو ما يعني شغل الفقهاء لإيجاد رأي شرعي إزاء هذه الحالات الاجتماعية التي تطرأ.
[69] الخزرجي، ج1، ص 204.
[70] الخزرجي، ج1، ص 180.
[71] الخزرجي، ج1، ص 209.
[72] الخزرجي، ج1، ص 209.
[73] الخزرجي، ج1، مطبعة الهلال، مصر، 1911. ص 288.
[74] الخزرجي، ج1، ص 257.
[75] الخزرجي، ج1، ص 357.
[76] الخزرجي، ج1، ص 78-79.
[77] بدران، محمد أبو الفضل: أدبيات الكرامة الصوفية، دراسة في الشكل والمضمون، العين، مركز زايد للتراث والتاريخ. 2001، ص 89 وما بعدها.
[78] الخزرجي، ج1، ص 57.
[79] الخزرجي ج1، ص78.
[80] الخزرجي، ج1، ص 120.
[81] الخزرجي، ج1، ص 127.
[82] الخزرجي، ج1، ص 200.
[83] الخزرجي، ج1، ص 340.
[84] الخزرجي، ج1، ص 258.
[85] الخزرجي، ج1، ص 218. ويبدو أن الإعفاء الضريبي كان من وسائل الشكر أو وسائل التقرب إلى العلماء، فإن كان الفقيه ابن عجيل رفض هذا الإعفاء كي لا يبقى في عنقه فضل للسلطان مخافة المداهنة في الدين، أو رغبة في أن يكون كباقي الناس، نجد الخزرجي مؤلف العقود يقبل هذا الإعفاء الضريبي ويكيل للسلطان شكرا عريضا على أن سامحه في خراج الأرض والنخل ” مسامحة مستمرة مؤبدة مستقرة”، بعد أن عاد من رحلة حج كلفه بها السلطان الملك الأشرف إسماعيل ليحج عن أمه. ثم لا يجد غضاضة في ذكر ذلك في كتابه عن نفسه. انظر، الخزرجي، ج2، مطبعة الهلال، مصر، 1911م. ص 175.
[86] الخزرجي، ج1، ص 219-220.
[87] اليافعي، عبد الله بن أسعد: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان، ج4، حيدر آباد الدكن، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، 1339هـ. ص 178
[88] الخزرجي، ج1، ص 102- 103.
[89] الخزرجي، ج1، ص 137.
[90] الخزرجي، ج1، ص 146.
[91] الخزرجي، ج1، ص 146.
[92] الخزرجي، ج1، مطبعة الهلال، مصر، 1911. ص 222.
[93] انظر مثلا: عبيدات، عبد الكريم نوفان: الجن وعلاقتهم بالإنس، دراسة في ضوء الكتاب والسنة، الأردن، عالم الكتب الحديث، 2004.
[94] إدلبي منير: أبناء آدم من الجن والشياطين، دمشق، دار الأهالي، 1993م. ص 12-13، والكتاب كله تفنيد للأخبار الخرافية ودحض لها عبر قراءة مميزة لآيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وهو في الخلاصة، وبعد استعراض مفصل لمعاني الجن والشيطان في المعاجم اللغوية، وبعد قراءات للأحاديث والآيات وفق ذلك، يرى أن الجن هم كل ما استتر عن العين من بشر وثعابين وميكروبات وغير ذلك، وهي موجودات مادية تسري عليها أحكام العقل المنطقي ولا صلة لها بالمحتوى الخرافي الشائع الذي يعطي الجن صفات غير بشرية ويمنحهم قدرات خارقة لا أصل لها إلا في الخيال الشعبي الذي ربي على قبول تلك الخرافات والخزعبلات.
[95] من بين المعاني الكثيرة التي أوردها لسان العرب تحت مادة “رخم”، والمتوافق مع سياق الجملة أعلاه، أن الرَّخَمَةُ طائر أبقع على شكل النسر خلقة إلا أنه مبقع بسواد وبياض يقال له الأنوق.. والرخم نوع من الطير واحدته رخمة وهو موصوف بالغدر والقذارة.
[96] الخزرجي، ج1، ص293- 294.
[97] الخزرجي، ج1، ص 154.
[98] الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين، ج1، ط3. بيروت، دار القلم، 1990م. ص 15.
[99] الخزرجي، ج1، ص 28.
[100] اليافعي، ج4، ص 178.
[101] أورد الحبشي هذه الرواية دون إشارة إلى مصدرها ليتسنى الرجوع إليه. انظر، الحبشي، عبد الله محمد: حياة الأدب اليمني في عصر بني رسول، ط2، منشورات وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، 1980م. ص 108.
[102] إحياء علوم الدين، ص 26.
[103] إحياء علوم الدين، ص.26
[104] إحياء علوم الدين، ص 22.
[105] السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن: المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي، المدينة المنورة، مكتبة التراث، 1989م. ص42.
[106] السخاوي، ص 42-43.
[107] السخاوي، ص 43.
[108] الحبشي، حياة الأدب، ط2. ص 84.
[109] الحبشي، حياة الأدب، ط2، ص 30 وما بعدها.
[110] الحبشي، حياة الأدب، ص 84.
[111] الحبشي، حياة الأدب، ط2. ص 60- 61.
[112] الخزرجي، ج1، ص 354.
[113] الحبشي، حياة الأدب، ط2، ص 84-87.
[114] الحبشي، جامع الشروح، ج2، ص 1343- 1347.
[115] الحبشي، جامع الشروح، ج1، ص 651 وما بعدها.
[116] لمعرفة المزيد عن وظائف الكرامة من جوانب مختلفة انظر: بدران، أبو الفضل، ص 99 وما بعدها
[117] سبقت الإشارة إليه في هامش سابق.