د. محمد البشير رازقي
د. محمد البشير رازقي([1])
الملخّص:
فرض منطق الإصلاحات في البلاد التونسية خلال النصف الثاني من القرن 19 على الفاعلين الاجتماعيين تمشّيًا جديدًا للحكم، ولهذا نلاحظ انقطاعًا نشأ مع هذه الإصلاحات. وقد تبيّن لنا من خلال هذا البحث الدور المهم الذي لعبته صحيفة الرائد التونسي في بلورة روح جديدة من خلال إنتاج مجموعة من المعارف وأهمّها نشر وصيّة فؤاد باشا على حلقات متفرّقة. ولاحظنا من خلال الوصيّة ذات الهواجس الاصلاحيّة في وعي فؤاد باشا بخطورة المشاريع السياسيّة والاجتماعيّة المُحيطة بالدولة العثمانيّة خلال القرن 19، خاصّة الأطماع الأوروبيّة تجاه “رجل أوروبا المريض”. وقد أبرز فؤاد باشا تحسّسه من مجموعة من السرديّات المُنتجة في عصره حول الدولة القومية ذات السيادة، و”العرق” والدّين واللّغة، وكان هدفه الأساسي عكس تعريف أوروبا لمؤسّسة الدولة الحديثة وإنتاج سياسة متشابكة ومتوافقة مع واقع الدولة العثمانيّة المتأزّم والصعب.
الكلمات المفاتيح: فؤاد باشا- الحداثة- القرن 19- الرائد التونسي- الإصلاحات.
The title of the article: The will of the Grand Vizier (former) Fouad Pasha, Sultan Abdul Aziz I, and the obsessions of modernity
Summary:
The logic of reforms in Tunisia during the second half of the nineteenth century imposed on social actors a new line of governance, and for this, we notice an interruption that arose with these reforms. Through this research, it became clear to us the important role that Al-Raed Al-Tounsi newspaper played in crystallizing a new spirit through the production of a group of knowledge, the most important of which is the publication of Fouad Basha’s will in separate episodes. We noticed through the will with reformist concerns, Fouad Pasha’s awareness of the seriousness of the political and social projects surrounding the Ottoman state during the 19th century, especially the European ambitions towards the “sick man of Europe.” Fouad Pasha highlighted his sensitivity from a group of narratives produced in his time about the sovereign nation-state, “race”, religion and language, and his primary goal was to reverse Europe’s definition of the modern state institution and produce an intertwined policy compatible with the difficult and difficult reality of the Ottoman state.
Key words: Fouad Pasha – Modernity – the 19th Century – Al-Raed Al-Tunisi Newspaper – The Reforms.
مقدّمة
ولد فؤاد محمد باشا في القسطنطينية سنة 1815م، وأبوه شاعر مشهور يُسمّى عزّت أفندي كشجي زاده، وعمّته الشاعرة الشهيرة المعروفة بليلى خاتون. وقد أتقن فؤاد باشا منذ صغره نظم الشّعر و”اشتهر أمره بين الناس”. وقد “نُفي والده من القسطنطينية بأمر من السلطان محمود، واضطرّ هو إلى معاطاة حرفة ما لكسب المعيشة”. وقد امتهن فترة مهنة الطبّ التي تعلّمها لمدّة أربعة سنوات في مدرسة قلعة السرايا. وتولّى وظيفة طبيب في عسكر البحريّة، ثمّ قلّدته الدولة وظيفة ترجمان في ديوان الترجمات. ودرس عددًا من اللغات الأجنبيّة و”العلوم السياسيّة” حيث تميّز بين أقرانه، واختارته الدولة سنة 1840م لمرافقة شكيب أفندي إلى لندن في وظيفة باش كاتب سرّ السفارة، ثمّ رُقّي إلى رتبة ثاني مترجم في الباب الهمايوني ثم إلى رتبة مدير ديوان الترجمات، وقُلّد رئاسة مجلس التنظيمات الخيريّة، ثمّ عيّنه السلطان عبدالعزيز في رتبة الصدارة العظمى([2])، ثمّ قُلّد وزارة الخارجيّة إلى حدود أكتوبر 1868م، ثمّ توفّي بعد مدّة قصيرة من ذلك (1869م)([3]). وقد كان فؤاد باشا خلال حياته السياسيّة من أهمّ الشخصيّات الإصلاحيّة في الدولة العثمانيّة([4]).
ونسعى من هذا المقال إلى نشر وصيّة فؤاد باشا مُجمّعة لأوّل مرّة، وهي التي كان يروم إرسالها إلى السلطان عبدالعزيز الأوّل (1830- 1876م)([5])، إلى جانب تحليلها ودراستها وتبيّن موقع فكر الإصلاح والتحديث في هذه الوصيّة، وهواجس الصدر الأعظم السابق تجاه رهانات عصره وممارسات وتمثّلات الفاعلين الاجتماعيين لزمنه، خاصّة علاقة الدولة العثمانيّة بالدول الأوروبيّة وبمجمل الأفكار النّاشئة مثل القوميّة والعرقيّة والحقّ والمساواة.
يبرز لنا عصر فؤاد باشا وهو القرن 19 تنافسًا كبيرًا على السيطرة على الأراضي و”المُستعمرات”، حيث نجد مقالات عديدة في صحيفة الرائد التونسي تُحيلنا إلى تشابك الصور النمطية والوصم الاستعماري للمستعمرات مع الرغبة في الربح ومنطق الرأسماليّة. ففي مقال بعنوان “رأي الإنجليز في أفريقية” نجد أنّه قد “اجتمع كثير من أكابر تجّار الإنكليز في مانشستر للمفاوضة في تشكيل لجنة منهم يكون من همّها تمهيد سبل التجارة بالبضاعة الإنكليزية في إفريقية، ودعوا إلى محفلهم السيّد ستانلي الرحّالة المشهور”، وإفريقيا حسب المقال قارّة غنيّة “فيها من الحيوان والمعدن والنبات ما في سائر القارات بل هي أوفر من أوروبا وأمريكا ثروة؛ لأنّها بكر لم تعبث بها أيدي المكتشفين”([6]). وقدّم لنا الرائد في مواضع عديدة الوجه الخلفيّ لمنطق الرأسماليّة المرتكز أساسًا على عامل الربح والفائدة بمعزل عن كلّ ما هو إنسانيّ، فقد “حدثت مناظرة في مجلس الأمّة بإنكلترة في أمر تجارة الأفيون في الهند، فحكم الجميع أنّها عار على إنكلترة، لكن لم يروا وجوب إبطالها لأنّه يدخل لهم منها في الهند تسعة آلاف ألف ليرة إنكليزية”([7]). فمنطق الربح هنا تغلّب على أضرار تجارة الأفيون الصحية والاجتماعية في دول المستعمرات.
كما تكرّست قوّة الدولة القوميّة ذات السيادة ببروز المدّ الاستعماري وتأسيس العصر الامبريالي، واحتاجت مؤسّسة الدولة ومن ورائها المشروع الاستعماري إلى شرعنة الوجود. وضمن هذه الرهانات لعبت السياسات العرقيّة، إلى جانب اللغة والجغرافيا، دور المُبرّر، حيث برزت “الحاجة إلى تقسيم الفضاءات المكانيّة في العالم الجديد غير المعروفة وزعم السيطرة وفرض الهيمنة عليها”([8]). فقد كانت قيمة العرق “طريقة القمع وطريقة التربية”، كما كان “الاهتمام بالجسم الفردي للرعيّة السياسية اهتمامًا عسكريًّا واقتصاديًّا معًا” حيث أسّس الاستعمار “لغة للجسم: عدده وحلته وتحسينه وحمايته”([9]). ولهذا فقد مثّل القرن 19 منعرجًا حاسمًا في التاريخ الاقتصادي للدولة العثمانيّة على مستوى الأسواق العالميّة و”تقلص أراضي الامبراطوريّة”، حيث “تحوّل الاقتصاد العثماني، وباطّراد، إلى مصدر للمواد الأوليّة ومستورد للسلع المصنّعة”([10]). كما تعدّدت حالات اقتراض الدولة خاصة الإقراض الخارجي، فخلال حرب القرم مثلًا عام 1854 “بدأت الحكومة العثمانية بيع سندات طويلة الأجل في الأسواق المالية الأوروبية”([11]).
مثّل هاجس الإصلاح قاسمًا مشتركًا بين عدد كبير من الدول العربية والإسلامية خلال القرن 19([12])، حيث نسجّل مثلًا تشابهًا كبيرًا بين وصيّة فؤاد باشا وكتاب خير الدين التونسي “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”؛ يشير خير الدين إلى أهميّة الاعتناء بـ”العدل والعلوم” أسوة بالغرب و”وجوب اعتماد التنظيمات” بما تشتمل عليه من مساواة بين جميع السكان([13])، وأهميّة “الحريّة”([14])، وأهمية الاعتناء باقتصاد الدولة ومراجعة القوانين الجبائية والامتيازات التي يتمتّع بها التجار الأوروبيون([15]). كان خير الدين من أهم رجال الاصلاح الذين واكبوا وضع تأسيس الدستور التونسي سنة 1861 ومجموعة من الاصلاحات المواكبة له([16]). هذا الدستور أُوقف العمل به بعد ثورة 1864 ([17])، وكان خير الدين من الرافضين لهذا القرار، ونجد صدى هذا الرفض في كتابه (نشر لأول مرة سنة 1867م)، حيث نجده يتكلم عن الدستور الفرنسي، ففي “سنة تسعة و ثمانون وسبعمائة و ألف وقعت الثورة الفرنسية… وأعطت الأمة الكونستيتوسيون ( constitution) مؤسسًا على الحقوق الإنسانية، وقد وضع هذا الانقلاب الفرنسي مبدأ تاريخ جديد للاجتماع الإنساني حيث غير حال الناس إلى طور جديد بالانتقال من ربقة العبودية إلى تمام الحرية، كما ثورة إنكلترة مبدأ تاريخ لدولة منظمة”([18]). هنا ينظر خير الدين إلى الدستور مرادفًا للحرية وللدولة المنظمة، ونجد أهم سببين لتقدم أوروبا حسب خير الدين هما العدل والحرية. فـ”الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان و التمدن بالممالك الأوروبية”([19])، أما العدل فهو المجسم بالقوانين التي “تقيد الرعاة كما تقيد الرعية”([20]).
ومن أهم الأسباب التي حثّت النخبة على التفكير في الإصلاحات خلال القرن 19 هو فقدان الدولة العثمانية لعدد من مقاطعاتها، بداية من مصر (1811م) مرورًا باليونان (1828م) وصولًا للبوسنة والهرسك وقبرص (1878م)([21])، إلى جانب طبيعة اتجاهات الاقتصاد العالمي حيث مالت الكفّة بوضوح لحساب أوروبا([22])، أمّا على المستوى الديمغرافي فقد اجتمع على سكان الدولة العثمانية “الفرسان الأربعة” وهم الأوبئة والكوارث الطبيعية والتقلبات المناخية والمجاعات([23]). وهواجس الإصلاح ارتكزت على وسائل النقل، فإلى حدود سنة 1850 “لم يكن هناك أيّ خطّ ممدود في أيّ مكان بالمنطقة الواقعة تحت السيطرة العثمانية”، ومع وصولنا إلى سنة 1890 “أقيم على الأراضي العثمانية حوالي 7500 كم من الخطوط الحديدية”([24]). كما نلاحظ وعي فؤاد باشا بأهمية الاعتناء بالتجارة، وكان الذي استفزّه على هذا الأمر هو أن “مجتمع التجار العثمانيين” كان إلى حدود نهاية القرن 18 يتكون أساسًا من التجار المسلمين، وبدأت العلاقة بين التجار المسلمين/ المحليين والتجار الأجانب المعتمدين أساسًا على نفوذ القناصل والمستفيدين من نظام الامتيازات تختلّ بداية مع بداية القرن 19، فبعد سنة 1870 “خدم التوسّع العام لرأس المال الأجنبي، بما في ذلك شبكات السكك الحديدية وأعمال إدارة الدين العام في تقويض مكانة التجار المحليين”([25]).
تميّز النطاق المعرفي للدولة العثمانية خلال القرن 19 بثلاثة نطاقات أساسيّة وهم “فلك علماء الدين الإسلامي”، و”فلك الدولة عند رجال السلطان”، و”الفلك الخاص بالمطبعة العربية المؤسسة حديثا”([26]). ويُخبرنا الرائد التونسي بنقاشات عديدة حفلت بها القسطنطينيّة عاصمة السلطنة حول وسائل وأساليب الإصلاح وإنقاذ الدولة. فقد أعرب “أحد الذوات المعتبرين من أرباب المناصب العالية “لائحة تشتمل على الإصلاحات التي يجب اتّباعها في الممالك العثمانيّة”. وتضمّ الوثيقة عشرة فصول، وهي تنفيذ القوانين بين “جميع سكّان السلطنة بالسويّة سواء رعايا أو أجانب “بغير فرق في العقائد والملل”، أي مبدأ المساواة. والفصل الثاني يُحيل إلى الاقتصاد وهو يدعو إلى المحافظة على “سعر الليرة العثمانيّة”. ويدعو الفصل الثالث إلى الاهتمام بالفلاحة، والرابع يؤكّد على “وسائل حفظ الحياة” للسكّان، والخامس يهتم بالإصلاحات الجبائيّة و”إزالة طيفيّة قبض العشر وترتيب أداء معلوم على الأملاك”، والسادس يهتمّ بميدان أملاك الدولة من خلال “بيع الملك الراجع للدولة حيث إنّ هذه الأملاك” لا تفيد الدولة ماديّا، وأشار الفصل السابع إلى أهميّة “تنظيم الجمارك”، والثامن أشار إلى “تنظيم المدارس سيما مدارس البنات”، والتاسع أشار إلى أهميّة إيجاد “طريقة لقضاء دين الدولة”، وركّز الفصل العاشر والأخير على أهميّة “خروج جيوش الروس من التراب العثماني عاجلا”([27]).
يُبيّن لنا فيكتور كيرنان التقنيات التي وظّفتها السلطات الاستعماريّة لإنجاح مشاريعها، فمثلا “على مدى قرن من الزّمان تصرّف الإنكليزي في الهند مثل نصف إله… وأيّ إضعاف لهذه الثقة في أذهان الإنكليز أو الهنود سيكون خطرًا”، ولهذا “سيكون من الأصعب على نصف الإله التخلّي عن سلطته مقارنة حتّى بالدكتاتور”([28]). وتوجّست “جماعات المصالح” من الإصلاحات وتركيز التنظيمات لأنها أضرّت بمصالحهم وامتيازاتهم([29]).
وتاريخيّا أُسّست الثورة الصناعيّة، وهي من روافد الدولة القومية ذات السيادة لنزع القيمة عن ممارسات الحياة الدينية، فالثورة الصناعية حوّلت النّاس “إلى مجرّد أيدٍ، مجرّد تروس من لحم ودم في المصانع والورش”([30]). وقد تشابك رأس المال مع اللغة المحليّة والثقافات الشعبية زمن نشأة الدولة القومية ذات السيادة([31]). فشبكات الهيمنة ضمن السياسات العرقية الاستعمارية ترتكز أساسًا على ثلاثيّة الثقافة، والدّين، والبيولوجيا، ولضمان فعاليّة عمل هذه الثلاثيّة يُركَّز على السياسات التصنيفيّة، وخاصّة التحقيريّة منها، وهي التصنيف، التفريق، الترتيب والمفاضلة. أمّا منطق تنزيل السياسات العرقيّة على الأرض فيعتمد على ثلاثية نظريّة وهي العرق، والبيروقراطيّة، والتجارة، وهذا النظري متشابك مع ثلاثيّة تطبيقيّة وهي الأرض، والسكّان، والاقليم([32]).
أبرز فؤاد باشا وعيًا مُفرطًا بخطورة المسألة العرقيّة، ولهذا حثّ المشرفين على الدولة العثمانيّة على تجاهل كلّ تقسيم عرقي. ومن ناحية تاريخيّة اعتمدت سيرورة تشكيل المركزيّة الغربيّة على تقنيات عديدة مثل العوامل الاقتصاديّة والجغرافيّة والدينيّة، وتبقى أهمّ هذه السياسات هي السياسات العرقيّة، أي “إيديولوجيا التفاوت واختزال الآخر”، حيث شُرّح الإنسان جسديّا لمعرفة خصائصه البدنيّة ومميّزات أعضائه، كما درس المناخ الذي نشأت فيه الأجساد([33])، كما حُلّلت أنماط العمل وعلاقتنا بالقوّة والقدرة الجسديّة على إنجاز أشغال معينة، بل وُزّعت هذه الأشغال إلى أعمال ذهنيّة وأخرى جسديّة. ولهذا فقد “اقترنت ولادة الغرب الحديث بظاهرة التأصيل العرقي، أي القول بوجود طبائع محدّدة وخاصّة تقف سببا وراء الحضارة الغربية الحديثة”([34]).
كما “أصبحت عرقنة الشعوب المغلوبة جزءا من الذوق العام لدى الطبقات الحاكمة” خاصة في تكفّل أوروبا بـ”المهمّة الحضاريّة” تجاه المستعمرات وتحمّلها “عبئ الرجل الأبيض”، ولكن يبقى لبّ رحى كلّ هذه الخطابات والإيديولوجيات هو المنفعة والربح الاقتصادي، فمع “الغزو البريطاني والفرنسي لمعظم مناطق إفريقيا جنوب الصحراء ووسط إفريقيا وشرقها وجنوبها، كان هناك تدفّق جديد للخُطب والكتابات عن أهداف المهمّة الحضاريّة وأساليبها في إفريقيا”([35])، ولكن استنادًا على هذه الخطابات والسرديّات و”باسم العرق نُزعت الصفة الإنسانيّة عن شعوب بكاملها وأكرهت على العمل بالقوّة وأُبيد مئات الآلاف أو اقتلعوا من مواطنهم”([36])، فرأس المال “لا يمكنه الاستغناء عن دعامات عرقيّة في سعيه للتغلّب على أزمات التراكم”([37]). وسجّل نتيجة أخرى انجرّت عن هذه المنظومة الاقتصاديّة/الاستعماريّة الجديدة، فقد نشأت مناطق طرفيّة مقابل أوروبا “المركز” حيث “تشكّلت الأطراف بصورتها المعاصرة في ذلك الوقت في ظلّ الغزو الاستعماري”، كما برزت ظاهرة “التخصّص الدولي” حيث أصبحت المناطق المُستعمرة تُنتج الغذاء والمواد الأوليّة لصالح أوروبا الصناعيّة([38]). كما نُرجع اهتمام فؤاد باشا بالفلاحة إلى عنصر أساسيّ وهو أنّه ما بين سنة 1800 و1900 كان “أربعة أخماس السكّان تقريبا يعيشون على الأرض ويكسبون قسمًا كبيرًا من سبل معيشتهم من ترابها”([39]). كما برزت خلال القرن 19 ظاهرة مهمّة وهي بداية بروز المحاصيل المخصّصة للتصدير المُدعّمة بتطوّر “التكنولوجيا الزراعيّة” وهذا ما أثّر على غذاء سكّان الدولة العثمانية، حيث “زاد المزارعون باطّراد من الإنتاج المخصّص لاستهلاك الأجانب كما أنّ حصّة أكبر من الإنتاج الكلّي كانت تذهب إلى الخارج”([40]).
يعتمد تناقل المعرفة على مجموعة من الركائز الأساسية، وأهمّها “الحركة وحراك البشر، والهويات المركّبة، وعبور الحدود”، ونلاحظ من خلال وصية فؤاد باشا وعيه بهذه الثلاثّية من خلال تركيزه على أهميّة استيعاب الدولة لكل السكان بتنوّع أعراقهم ولغاتهم ودياناتهم فهم محمل أساسيّ للمعرفة والتطوّر، فقد “كان الناس يجعلون المعرفة قابلة للحركة عندما يرسلون وينشرون وينقلون ويحوّلون ويتجاهلون وينسون ويُترجمون”([41]). كما يعتمد تناقل المعرفة على ثلاث فئات اجتماعية مهمّة وهي الأجانب وجماعات الأقليات وأعوان الدولة، فالناس “هم في الحقيقة اللذين جعلوا هذا التواصل ممكنا بالوساطة بين اللغات والثقافات”([42]). كما استفادت الدولة العثمانية بسبب موقعها من الطرق التجارية البرية والبحرية([43])، فالتجارة إلى جانب عوائدها المادية مثّلت حاملًا مهمًّا للمعارف.
وإلى جانب مذكّرات فؤاد باشا، نلاحظ أن النقاش حول التنظيمات تواصل على صفحات الرائد حيث “ما زالت نصحاء الأمة الإسلامية من العلماء ورجال السياسة يلهجون بصوت عالٍ بالترغيب في جمع الكلمة والاتّحاد والوثوق بالتنظيمات التي سعت أبواب الخلافة في إجرائها طبق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية”، و”أعداء التنظيمات اليوم هم أعداء الوطن” و”المضادين للتنظيمات الشرعيّة والقوانين السياسيّة إنّما هم شيوخ في الإسلام، لا خبرة لهم بتطبيق نصوص الشريعة على مقتضيات أحوال الأيّام، فمثل هؤلاء حسبهم الإفتاء فيما هو من نوع الصلاة والصيام، وإن تداخلوا في غير ذلك يُخاطبون بسلام، وبالحري أن يكون ضرر هؤلاء من آثار الضلال القديم الناشئ عن تصرّفات أمثال محمود نديم الذي كانت المناصب في أيّامه تنال بالرشوة، لا يكون للمتقدّمين إليها في العلوم قدرة، ولو كان هؤلاء من ذوي العرفان لاتّسعت أنظارهم ولصقل التهذيب مرايا أفكارهم ولم يجهلوا بالأقّل تاريخ بلادهم…ألم يبلغهم تطواف الشيخ عارف المشار إليه على مدن المملكة المحميّة حين منحها المقدّس السلطان عبدالحميد تنظيماته الخيرية”([44]).
نشر الرائد “وصيّة فؤاد باشا” التي نشرت في الصحف الفرنسيّة خلال إقامة الكاتب في فرنسا([45])، وهي موجّهة للسلطنة العثمانيّة، وهي تشتمل على “نصائح شتّى في غاية ما يكون من الأهميّة”([46]). وقد كتب فؤاد باشا وصيّته في ظرفيّة صعبة عايشتها الدولة العثمانيّة مثل تعليق الدستور سنة 1878 من قبل السلطان عبدالحميد، وخسارة الدولة عدة أراضي، واندلاع الحرب الروسية العثمانية و”القمع الشديد للاتّجاهات الليبرالية والاصلاحية، واغتيال عدد من رجال الإصلاح([47]).
وقد تبيّن لنا من خلال المصطلحات المستخدمة في الوصيّة توجّس فؤاد باشا من الحاضر حيث يشير إلى أنّ “السلطنة العثمانيّة على شفا خطر من الخراب”، وهي حقيقة “محزنة جدًّا”. ومن أهمّ أسباب هذا الواقع الأليم هو تأخّر الدولة العثمانيّة بالمقارنة مع جيرانها الأوربيّين إلى جانب الأخطاء الكثيرة التي راكمها الحكام العثمانيّون حيث إنّه “يوجد فرق عظيم بين حالة جيراننا الآن والحالة التي كانوا عليها منذ قرنين، فإنّهم ترقّوا جميعًا وتركونا وراءهم على بعد كبير”. ولهذا فقد وصف الكاتب الحالة الراهنة للإمبراطورية العثمانيّة بـ”انقلاب فظيع”، وحاول عبر هذه الوصيّة تقديم مجموعة من الحلول لتفادي أخطاء “الأجيال الهرمة المهترئة” منها المراهنة على “النّظام والتمدّن” مثل أوروبا، ولكي لا تهلك الدولة “محتوم عليها… أن يكون عندها من الغنى مقدار ما لدولة الإنكليز ومن الأنوار العقليّة مقدار ما لأمّة فرانسا ومن العساكر مقدار ما لدولة روسيا”. إذن فإنّ العلاج الأوّل المقترح هو الثروة الماديّة والعُدّة العسكريّة والثقافة والتعليم والفكر، وبعبارة أخرى “يلزمنا الترقّي في التمدّن بمقدار ترقّي أمم أوروبا”.
تتميّز الدولة العثمانيّة بالموقع والموضع المناسب لإنتاج السلطة والمكانة والثروة الماديّة، وهي “الفاخرة أرضا ومركزا، الحائزة جميع المواد اللازمة لنا للفواق على أيّ دولة كانت من دول أوروبا”، ولكي تكتمل الصورة يجب على الدولة أن تُؤسّس ترتيبات وتنظيمات سياسيّة ومدنيّة جديدة، “فإن كثيرًا من القوانين التي كانت نافعة في القرون المتقدّمة صارت في أيّامنا هذه مُضرّة للاجتماع البشري”، وخاصّة أنّ هذه القوانين في روحها غير مناقضة للشريعة الإسلامية، بل “موافقة لنصوص الشرع المحمّدي أعظم موافقة” فهدف المنظومتين سواء وهو “الترقّي والانتظام”، فالإسلام “يأمرنا جميعا بالسّعي في توسيع دائرة قوانا العقليّة وبأن نطلب العلوم النافعة والمعارف المفيدة”. فلا فرق بين المعرفة عند المسلمين والمعرفة عند غيرهم فالعلم “واحد وهو الشمس الوحيدة التي تنير العقول”، والعوائق الجغرافيّة أمام المعرفة هي عوائق مُتوهّمة سواء كان العلم في “مكّة المشرّفة أو في باريس”، ولهذا فلا “مانع لنا قطّ من أخذنا عن أهل أوروبا قوانينهم المحدثة وانتفاعنا باختراعاتهم واكتشافاتهم الجديدة”.
يبرز لنا فؤاد باشا التراتبيّة التي يجب أنّ يتّبعها سكّان الدولة العثمانيّة، وهي “مولاي ووطني وديني”، وهذه تراتبيّة متأثّرة بنشأة القوميّة في أوروبا خلال القرن 19. ولكي تستأنف “الأمّة” تاريخها من جديد ضمن هذه السياقات التاريخيّة عليها أن تستند على “العقل السليم” والمراهنة على “التنظيمات والترتيبات والقوانين”، وأن على السلطان العثماني أن يضع في المناصب الهامّة كلّ من يستحقّ وأن يثق فيه حيث أنّ “ثقة الملك هي قوّة للوزراء تشدّ عومهم وتمكّنهم من إنجاز الأعمال المهمّة”.
وقد اهتمّ فؤاد باشا بعلاقة الدولة العثمانيّة بسياقها الأوروبي، وبداية فقدان السيادة مع كثرة المعاهدات والامتيازات المقدّمة لعدد من الدول، فلمّا “كنّا غير قادرين على مدافعة أعدائنا بأنفسنا، مسّتنا الضرورة إلى مصاحبة الأجانب ومعاهدتهم”. وترتكز السياسة الأوروبيّة تجاه الدولة العثمانيّة على أربعة أركان، حسب فؤاد باشا، وهي ” التحاسد” و”المزاحمة المغايرة لنصوص العدل والاستقامة و”السطوة” و”الاقتدار الكلّي”.
وأهمّ الدول الأجنبيّة هي الدولة الإنكليزية، وهي دولة “أحسنت الصنيع” مع الدولة العثمانية وهي “من أعظم المعاهدين لنا خلوصًا وتدوم على العهد”. بالمقابل نجد فرنسا وهي دولة تستطيع أذيّة العثمانيّين “أشدّ الأذى”، وللتوقّي من هذه الدولة على الدولة العثمانيّة أن تترقّى “في مراتب التمدّن والانتظام ترقّيًا يؤثّر بأذهان الفرنسيين وعقولهم معًا، إذ لا ريب في أنّ هذه الأمّة عندما تيأس من انصلاح شأننا تجعل هي نفسها أسبابًا تكمل هلاكنا”.
أمّا “أوستريا” بسبب مشاكلها الداخليّة وتشتّت “مصالحها بأوروبا”، فقد بقيت كيانًا سياسيًّا غير مؤثّر في “أحوال المشرق” خاصّة بعد طردها “من جرمانيا”. والقاسم المشترك بين الدولة العثمانيّة وأوستريا هو توجّسهم من العدوّ نفسه “من جهة الشّمال” وهو روسيا، ولا يمكن التصدّي لهذه “الداهية المهولة” إلاّ “بمعاضدة دولة أوستريا المعاضدة الفعليّة مع الإمداد لنا من الدول الغربيّة”، وهذا الأمر جعل أوستريا “الحليف الحقيق للباب العالي”.
أمّا دولة بروسيا فقد أهملت الاهتمام بالشرق، وقد أبدى فؤاد باشا خوفه من أن تتخلّى بروسيا عن الدولة العثمانية وتُخضعها لمقايضة “سياسيّة” و”تجعلنا ضحيّة لوحدة جرمانيا”، وأن “تشتري بروسيا يوما هلاك أوستريا بما لنا من الأقاليم في أوروبا”.
ونلاحظ توجّسًا كبيرًا من قبل فؤاد باشا تجاه روسيا “التي هي عدوّنا الأكبر ذو الصولة والاقتدار” و”الخطر العظيم”، فروسيا حسب فؤاد باشا مدمنة للتوسّع، وهي شوكة في خاصرة روسيا الشرقيّة وتعتمد على سكك حديديّة حديثة تضاعف قوّتها “المرّة عشرة أضعاف”، ويوصي الكاتب بأهميّة توفير القوّة العسكريّة وخاصّة “القوّة التي تتحصّل بالعلوم والفنون والمعارف والتنظيمات الحديثة”، وتضاعف توجّس فؤاد باشا بعد سيطرة روسيا الكاملة على جبل القوقاز[48].
أمّا الخطر الثاني بعد روسيا فهي مملكة فارس التي أهلها “ضرّابو فتن” ووُصفوا بالغلوّ في الدّين، وقد كانت هذه المملكة “دائما تعاضد أعداءنا علينا”، فقد انضمّت مثلًا في حرب القرم إلى روسيا وهي دائمًا “منقادة إلى دولة روسيا الانقياد التام”، والحلّ للتغلّب على هذه المملكة هو عدم الانقياد إلى أيّ حرب، ولكن “إذا وقعت حرب بيننا وبين روسيا تكون دولة فارس من أشدّ أعدائنا. والعدوّ الثالث للدولة العثمانيّة هي مملكة اليونان، فقد تشابك تاريخ الدولة العثمانيّة مع جغرافيّتها، ممّا يجعلها أحيانًا ضحيّة موقعها وجيرانها، فاليونان “يمكن أن تضحو سيفًا ماضيًا في يد دولة معادية لنا”. فزمن قوميّة القرن 19 أنبت أعداء كُثر للدولة العثمانيّة وأهمّهم اليونان. فالتاريخ والجغرافيا متقاسمان، وهنا برز الصراع حول أماكن الذاكرة واسترجاع الماضي وإحيائه كوسيلة لبناء وتشكيل الهويّة، خاصّة وأنّهم “لم يزالوا يتذكّرون مدّة أسلافهم وما كان لها من الفخر والشهرة”، ويطمعون باسترجاع مجد أسلافهم و”الاستيلاء يومًا على الشرق” وخاصّة بيزنطة، وهذا الأمر استفزّ فؤاد باشا الذي أكّد أنّ مؤسّسي المملكة اليونانيّة اعتقدوا “أنّه يتيسّر لهم بذلك إحياء أمّة دثرت منذ ألفي سنة”، و”توهّموا أنّه يمكن لهم إعادة عمران بلاد أميروس وأرسطو ولكنّهم لم ينشئوا في الحقيقة إلا مجتمعًا للدسائس والفتن ومأوىً للطغاة والأشقياء”. ونتبيّن من خلال المصطلحات التي وظّفها فؤاد باشا حضورًا كثيفًا لمعجم القوميّة، وأهمّها المصطلحات العرقية مثل “عرق الجنسيّة اليونانيّة”، إلى جانب ترسانة من المصطلحات التحقيريّة مثل “الفساد والجهل والنغولة”. وأوصى فؤاد باشا بعزل سياسيّ وحضاريّ لمملكة اليونان لحرمانهم من أمجادهم التاريخيّة و”تكون غاية سياستنا إفراد اليونان عن باقي نصارى المشرق”، والقيام باستنزاف بشريّ ضدّ نقطة قوّة مملكة اليونان وهي الكنيسة الأرثوذكسيّة، فحسب عبارة فؤاد باشا يجب “منع البلغار من الوقوع في حكم الكنيسة الأرثوذكسية، مع حفظنا إيّاهم من السقوط في قبضة الروس أو الرومان، وكذلك ينبغي ألا يسمح الباب العالي بدوام الحيل المقصود بها غرّ الأرمن إلى الكنيسة الأرثوذكسية”. فعلى الدولة العثمانيّة نسج سياسة دينيّة دقيقة لا تحتمل الخطأ. هذا إلى جانب هواجس أخرى للعثمانيّين أهمّها بروز السياسات العرقيّة والقوميّة، أي عصر نشأة “السياسات الحيويّة”([49]).
وقد حاول فؤاد باشا أن يُقدّم مجموعة من الحلول لمساعدة الدولة العثمانيّة على تجاوز أزمات القرن 19. فبداية يجب أن تُرسم سياسات الدولة بمعزل عن السياسات العرقيّة، ففي “في منهاج سياستنا الداخلية يلزم أن يكون موجّها إلى غاية واحدة وهي مزج الأجناس بعضها مع بعض”، لتجنّب الفُرقة ومنع كلّ أسباب نشأة القوميّة، إذ “إذ من دون هذا المزج أظنّ أن استمرار بلادنا دولة واحدة متّحدة يكون أمرًا مستحيلا”. كما أنّه من المهمّ أن يتمّ رسم سياسة دينيّة جديدة متوائمة مع التنوّع العرقي والديني للدولة العثمانيّة، ولا يُصبح معيار الدين أساسًا لتحديد طبيعة الانتماء حيث إنّ “تجديد نشأة دولتنا إنّما هي أن نؤسّسها على أساسات متينة وقواعد صالحة لأن تضمّ جميع الأجناس وجميع الأديان وتجعلهم متساوين في الحقوق والمزايا”، ولهذا فإنّه يجب أن يكون الأساس المكين للدولة هو ثنائيّة الحقّ والواجب لا العرق والدّين. والهدف هنا هو تحقيق “المساواة” بين السكّان. ولكن يُحذّر فؤاد باشا من التساهل في توظيف “النصارى” في المناصب الإداريّة والسياسيّة الحسّاسة، وأوصى بتوظيف النصارى الأوفياء للدولة العثمانيّة وحدها و”فيلزم والحالة هذه ألا نقلّد الوظائف إلا لأولئك الذين يقبلون قاعدة وحدة السلطنة قبولًا خالصًا من كلّ مخادعة”. وأوصى الكاتب بإعطاء كامل الحريّة الدينيّة لطوائف الدولة، حيث إنّه “لا يعنينا مثلًا حالة كون الباشا الفلاني يعبد الله على طريقة الملّة الموسويّة أو طريقة الملّة العيساوية”، مع الحذر من توجّهاتهم السياسيّة ومراقبتها “أشدّ المراقبة لأنّها كثيرًا ما تكون منافية لنفس وجودنا”، ويجب على كلّ موظف في جهاز الدولة أو عون من أعوانها أن يكون لديه “الاعتقاد بقاعدة واحدة وهي قاعدة وحدة الدولة والوطن التي أساسها مساواة الجميع”.
ويُنبّه فؤاد باشا إلى ضرورة اعتماد الدولة العثمانيّة على التنظيمات وتأسيس المجالس والقوانين وهو عمل “ضروري لا يمكن الاستغناء عنه”. وبعد تركيز القوانين، على الدولة أن تهتمّ اهتمامًا كليًّا ببناء السكك الحديديّة من أجل السعي إلى تأسيس “أعظم سلطنة في العالم”. كما أشار فؤاد باشا إلى أهميّة “التعليم العمومي”، فلا يمكن للدولة أن تُهمل “حسن التربية وإتقان العلوم والفنون والمعارف” من أجل التمتّع بالحريّة واللّحاق بركب الدول الأوروبيّة و”البقاء في الأجيال الآتية” والاعتماد كليًّا على “الوسائل المبنيّة على العقل المتهذّب المتنوّر”.
ونلاحظ أنّ هواجس الإصلاح لدى فؤاد باشا خلال سبعينات القرن 19 تتمحور حول المحافظة على وحدة السكّان وتجنّب كلّ تفرقة عرقيّة أو دينيّة، أي مبدأ المواطنة، من حيث الوطن هو المرجع الأساسي لتعريف الفرد، وهواجس اقتصادية تتمحور حول المحافظة على القوّة العاملة وتنظيم الجمارك والإصلاح الضريبي، وهذا العنصر أيضا يُحيل إلى وعي مؤسّسة الدولة بأهميّتها في هذا المنطق الجديد كونها المؤسّسة الأساسيّة للمجتمع وهي “سياج العالم”([50]). كما ارتبطت هواجس الإصلاح بمصدر الغذاء الأساس للسكّان وهي الفلاحة، أي المعاش. كما نلاحظ اهتمامًا بالأمن وحفظ الأملاك والأرواح، والتأكيد على أهميّة التعليم والتعلّم خاصّة للبنات، وإلى جانب هذه العناصر نسجّل هواجس مرتبطة بالسياسة الخارجيّة وهي أيضا مرتبطة بسيادة الدولة من خلال تأكيد على أهمية خروج الروس من الأراضي العثمانيّة.
خاتمة:
نستنتج ونقول إنّ فؤاد باشا كان واعيًا بخطورة المشاريع السياسيّة والاجتماعيّة المُحيطة بالدولة العثمانيّة خلال القرن 19، حيث سعى إلى مُعاكسة أهمّ مشاريع الحداثة وهي مؤسّسة الدولة القوميّة ذات السيادة([51])، حيث حثّ السلطان على تجنّب تعريف السكّان استنادًا إلى دينهم أو لغتهم أو عرقهم حاثّا أساسًا على قيمة المساواة بين جميع السكّان. ويرتكز مفهوم الدّولة على “تجمّع بشري ثابت على إقليم محدّد يُقام فيه نظام اجتماعي وسياسي وقانوني، وتصُونه سلطة تتمتّع بسطوة إكراه”، ولهذا فإن مؤسسة الدولة تعتمد على “سكّان وإقليم وسلطة، ونظام تُؤمّن هذه السلطة سيادته”([52]). ونظرة فؤاد باشا لا تُنافي هذا التعريف للدولة، وإنّما يتحسّس من كلّ تعريف عنصري أو لغوي أو ديني للدولة، وهذه الأسس هي التي ارتكزت عليها الدولة القوميّة، وهذه الأسس هي التي أسّست لشوفينيّة القرن العشرين من قبيل آريّة الدولة النازيّة وعظمة “الرّومان” عند الدولة الفاشيّة. وخطاطة هواجس فؤاد باشا عكست المرتكزات الجنينيّة للدولة القوميّة ذات السيادة التي بدأت تبرز خلال القرن 19، خاصّة أنّ الدولة ذات السّيادة تحتاج إلى أن “تُتخيّل ويتمّ تجسيدها قبل أن تُوجد”([53]). فـ”القوميّة بمفهومها البدائي” ترتكز أساسا على “حبّ الأرض والبيئة، وحبّ الأهل من جهة الدمّ والأقرباء من جهة الأرض، والأنسباء من جهة الدّين”([54]). وقد تنبّه فؤاد باشا إلى المداخل التي يمكن أن تُفكّك الدولة العثمانيّة، فركّز على قيمة المساواة والعدل بين جميع السكّان([55])، خاصّة أنّ الذهنيّة السياسيّة الأوروبيّة أرادت أن تُحوّل نظام “الملّة” العثماني إلى “مفاهيم: أمّة وشعب”، و”إلى أقليّات في نظر الدول الأوروبيّة”([56])، أي إعطاء بُعد وتعريف عرقي للفاعلين الاجتماعيّين وهذا الأمر لم يكن متواجدا في الذهنيّة السياسية العثمانيّة. وهدف الدول الأوروبية من هذا التحويل هو توظيف قيمة “الأقليّات” من أجل تبرير “عمليّة التدخّل من طرف دولة في شؤون دولة أخرى”([57]). ثمّ حاول أن يقدّم بعض الحلول الاقتصاديّة والغذائيّة والتربويّة. فلا يمكن لنا أن نتفهّم وصيّة فؤاد باشا بمعزل عن “التغلغل الأوروبي وآثاره” على الدولة العثمانيّة سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية (تدهور الحِرف مثلًا على حساب الصناعات الأوروبية، وليس من الصدفة هنا أنّ التدهور الاقتصادي والأزمات الاجتماعية وتشابكها مع الأفكار الأوروبية حول القوميّة أسهم بداية من سنة 1876، وهو زمن فؤاد باشا، “ببروز أفكار سياسيّة غائمة ترفع شعارات من مثل الوحدة السورية والاستقلال السوري والانفصال عن الأتراك”([58])، بل لم يسلم قلب الدولة نفسها حيث بدأت تُطرح نظريّات عرقيّة مهّدت لانتشار “قوميّة طورانيّة” ذات أبعاد “عرقيّة” واضحة([59]).
كلّ هذه الهواجس كانت حاضرة في ذهن فؤاد باشا عند كتابته لوصيّته. فقد كان ذا “معرفة واسعة بالأفكار السياسيّة الغربيّة وبالممارسات”، وكان يُؤمن بأنّ “ضمان الحريّات للشعوب غير المسلمة في الامبراطوريّة سوف يُخفّف من حماسهم القومي والانفصالي”، ولكي تُنقَذ الدولة العثمانيّة يجب أن يُشكّل “مفهوم المواطنة العثمانيّة المتساوية”، ولهذا راهن على مفهوم “العثمانيّة” كهويّة مشتركة بين جميع الرعايا مناهضة لـ”الرّوح القوميّة” الصّاعدة([60]). فالهدف الأساسي من فكر فؤاد باشا هو إنقاذ الإمبراطورية العثمانيّة عبر “خلق رابطة بين شعوبها تقوم على المواطنة المتساوية المبنيّة على الجنسيّة العثمانيّة”([61]).
نصّ الوصيّة
“1: ليس باقيا لي من الحياة إلاّ أيام قلائل بل لعلّه لم يبقَ منها إلا ساعات معدودة، فأشتهي أن أصرفها في إتمام واجب فرضي. إنّي أشتهي أن أعرض على أعتاب الحضرة السنيّة أفكاري الأخيرة وهي أفكار كدرة في ذاتها ولكنّها ثمرة اجتنيتها بمشقّة مدّة حياتي الطويلة النكدة. وحين يوضع هذا الكتب بين يدي جلالتكم أكون قد خرجت من هذا العالم. فتقدّرون إذا على النصت إليّ هذه المرّة من غير استخوان. فإنّ الصوت الذي ينادي من القبر هو دائمًا صادق تامّ الإخلاص. فأقول إنّ الله تعالى قد كلّفكم بمصلحة مهمّة يحصل من إتمامها المجد العظيم ولكنّها محتاطة بالأخطار الجسمية (كذا: أي جسيمة) ولكي يمكنكم أن تقوموا بها حقّ القيام الواجب يلزم لجلالتكم أن ترسّخوا في ذهنكم حقيقة مهمّة للغاية وإن كانت في نفسها محزنة جدّا وهي أنّ السلطنة العثمانيّة على شفا خطر من الخراب.
2: إنّ إنجاع جيراننا السريع والأغلاط الفائقة كلّ تصوّر التي صدرت من سلفائنا جعلتنا في حالة صعبة بمقدار زائد من الحدّ. فلكي تنجوا من انقلاب فظيع يلزم لجلالتكم أن تمحوا آثار الأجيال الهرمة المهترة وتقيدون نحو حظوظ جديدة. وبعض أشخاص من الغيورين على الوطن الجهلاء يبذلون مجهودهم في إقناع جلالتكم بأنّهم يتيسّر لنا بوسائلنا القديمة إعادة السلطنة إلى رنقها السابق، وهذا إنّما هو غيّ جسيم ووهم لا يقبل العذر. نعم لو أنّ جيراننا اليوم هم على ما كانوا عليه في الأجيال المتقدّمة لكانت وسايلنا (أي وسائلنا) القديمة كافية لجعل جلالتكم فيصل أوروبا، لكن وأسفاه إنّما يوجد فرق عظيم بين حالة جيراننا الآن والحالة التي كانوا عليها منذ قرنين. فإنّهم ترقّوا جميعا وتركونا وراءهم على بعد كبير.
3: نعم إنا نحن أيضا تقدّمنا ودولتكم الحالية هي في واقع الأمر أكثر تنوّرا من دول أسلافكم وأوفر حظوظًا غير أنّ من سوء البحت هذا الفضل ليس بكاف للوازم عصرنا هذا. فإنّه لا يتأتّى لكم اليوم الدوام في أوروبا بمجرّد معادلتكم لأسلافكم بل ولا بفواقكم عليهم وإنّما لا بدّ لكم من أن تقارنوا جيرانكم الأجانب بل وأن تجاروهم في النّظام والتمدّن. ولإيضاح فكري هذا بمَثَلٍ أقول إنّ دولتكم في هذا القرن محتوم عليها كي لا تهلك رأسا أن يكون عندها من الغنى مقدار ما لدولة الإنكليز ومن الأنوار العقليّة مقدار ما لأمّة فرانسا ومن العساكر مقدار ما لدولة روسيا. فإنّ أمر دوامنا ليس متعلّقا بإحداثنا تنظيمات مهمّة، وإنّما يلزمنا الترقّي في التمدّن بمقدار ترقّي أمم أوروبا.
4: وفي الحقيقة إن ممالكنا الفاخرة أرضًا ومركزًا الحائزة جميع المواد اللازمة لنا للفواق على أيّ دولة كانت من دول أوروبا، ولكن يشترط لذلك شرط لا بدّ منه وهو أنّه يلزم ضرورة أن نبدّل جميع ترتيباتنا وتنظيماتنا السياسية والمدنيّة؛ فإن كثيرًا من القوانين التي كانت نافعة في القرون المتقدّمة صارت في أيامنا هذه مُضرّة للاجتماع البشري. إذ إنّ الإنسان طبيعيّا قابل البلوغ إلى حدّ الكمال وعلى هذا يجب أن يُثابر على دوام السعي إلى تحسين أعماله وإصلاح شأنه.
5: …إنّ هذه القاعدة المهمّة التي هي من كنه طبيعة البشر هي في الحقيقة موافقة لنصوص الشرع المحمّدي أعظم موافقة؛ فإنّ الإسلام شامل لجميع القواعد والعقائد التي من شأنها مساعدة الجنس البشري على الترقّي والانتظام. والذين يتّخذون الديانة الإسلامية آلة يتعرّضون بها للاجتماع الإنساني في ترقية ليسوا في الحقيقة بمسلمين بل هم بالأحرى حمق وكفارة. قابلة التغيير هي كالسياج المحاصر للعقل البشري يمنعه من الترقّي في المعارف. وأمّا الدين المحمّدي الخالص من مثل هذه الموانع الناشئة عن أسرار وقواعد يدّعي لها بالمعصوميّة إنّما يأمرنا جميعًا بالسعي في توسيع دائرة قوانا العقلية، وبأن نطلب العلوم النافعة والمعارف المفيدة لا عند أهل الإسلام فقط بل من عند سائر الأمم الأجانب ولو كانوا في أقصى أقطار الدنيا.
6: ولا ينبغي أن تتوهّم الناس أنّ العلم عند المسلمين مغاير لما عند الأجانب، كلّا، بل العلم واحد وهو الشمس الوحيدة التي تنير العقول، وحيث إنّ دين الإسلام هو جامع لكلّ الحقائق والعلوم يلزم بالضرورة أن كل اكتشاف نافع وكلّ اختراع جديد وكلّ معرفة تكسبها التجربة أية كانت سواء أحدثتْ في مكّة المشرّفة أو في باريس عند الوثنيين أو عند المسلمين إنّما يتلقّاها دين الإسلام بالاقتبال الحسن، وبناء على ذلك لا مانع لنا قطّ من أخذنا عن أهل أوروبا قوانينهم المحدثة وانتفاعنا باختراعاتهم واكتشافاتهم الجديدة. فإنّي قد استقصيت درس أصول ديانتنا وفهمت كنه غايتها حقّ الفهم وإنّي الآن ما زلت رائق الفاكرة وأدرك حقيقة كلامي ولا يمكنني في هذا الوقت الذي أنا مشرف فيه على ملاقاة الخالق الديّان أن أتجاسر على خيانة مولاي ووطني وديني، فأحقّق لجلالتكم التحقيق التام –وإني على يقين محض من ذلك- أنّ جميع التنظيمات والترتيبات والقوانين التي أحدثتها أمم أوروبا لا يوجد فيها شيء البتّة مغاير لنصوص ديننا وشريعتنا أدنى مغايرة. وإنّي أقسم لكم أن سلامة دين الإسلام تقتضي أن نبادر إلى اتّخاذ تلك المحدثات المهمّة التي بدونها لا يمكن أن تقوم دولة الآن في أوروبا.
7: وأقسم لكم أيضا أنّه بإصلاحكم نظام السلطنة على هذا الوجه لا تفعلون شيئا يثلم عزّ الدين الإسلامي واستقامته، بل إنّما يكون صنيعكم لجميع الأمم الإسلامية من أعظم المنن وأجلّها وأفيدها وأكثرها موافقة لأحكام العقل السليم مما لا يخطر ببال أسلافكم أصلًا، وهذا العمل الخطير عمل استئناف الأمّة يشتمل على أمور شتّى مهمّة جدًّا لا قدرة لي على استيفاء الكلام عليها فضلًا عن كون ذلك يستلزم له وقت أطول ممّا هو باق لي من الحياة، ولكن عندكم رجل همّام كنت له أخًا وصديقًا أبقاه الله لجلالتكم، فإنّه أدرى من أي كان بالوسائل التي يمكن إنجاء سلطنتكم بها وما نصحت حضرتكم نصيحة قطّ إلا وتحقّقت قبل ذلك أن المشار إليه بعقله السديد الذي هو ثمرة تجربته للأمور كان موفقا لي فيه. فعلى حضرتكم يا مولاي أن تداوموا ثقتكم به، بل الثقة التامّة فإنّ ثقة الملك هي قوّة للوزراء تشدّ عومهم وتمكّنهم من إنجاز الأعمال المهمّة، والذي أتجاسر على توصية جلالتكم به أكثر من غيره هو ألا تسمحوا أبدًا بأن عقلًا ثاقبًا مثل عقل هذا الخديم المخلص الذي لا يمكن استغناؤكم عنه يصدّه عن العمل أقران جهلاء، فإنّه لا شيء يضع من عزيمة الرجل الحازم كإلزامه أن يسير سير أناس عاجزين عن إدراكه. فالآن يجب أن أقول بعض كلمات في شأن معاملاتنا الخارجيّة، ولعمري إن سلوك دولتكم في طريق هذه المعاملات لصعب غاية الصعوبة التي تحمل على اليأس من نجاحها فيه، فإنّه لمّا كنّا غير قادرين على مدافعة أعدائنا بأنفسنا مسّتنا الضرورة إلى مصاحبة الأجانب ومعاهدتهم، وأغراض هؤلاء المبنيّة على التحاسد والمزاحمة المغايرة لنصوص العدل والاستقامة مع اقتران ذلك بالسطوة والاقتدار الكلّي قد جعلتنا في مرتبة من العسر لا يمكن وصفها، فإنّه يلزمنا الآن من الحزم والحذاقة والإقدام للدفع عن أدنى حقّ من حقوقنا أضعاف ما كان يلزم لأسلافنا من ذلك لفتح الممالك الضخمة.
8: فمن الأجانب المعاهدين لنا تجدون دائمًا الدولة الإنكليزية في المرتبة الأولى، فإن هذه الدولة قد أحسنت الصنيع إلينا في السابق، ويستحيل علينا اجتناب ما يمكنها أن تمدّنا به من المساعدة في المستقبل. وعلى كلّ حال مهما تأتّى علينا من الأحوال فإنّ الأمّة الانكليزيّة التي هي أكثر أمم العالم ثباتًا وأغربها أخلاقًا وأطوارًا تكون من أعظم المعاهدين لنا خلوصًا وتدوم على العهد آخر الجميع، على أنّه أحبّ إليّ أن أرى دولتنا قد فقدت عدّة أقاليم من أقاليمها ولا أراها قد تخلّت عليها إنكلتيرة.
9: أمّا فرانسا فيلزم لنا أن نجتهد في مداراتها على أي وجه كان، ليس فقط لأنّها قادرة على معاضدتنا معاضدة كليّة بل أيضا لأنّها تستطيع أذينا (كذا: أي أذيّتنا) أشدّ الأذى، فإنّ هذه الأمّة المقدامة تنقاد إلى عواطف القلب أكثر ممّا تراعي الأغراض أو المنفعة الذاتيّة، وهي سريعة التحمّس من الفخر والمقاصد المهمّة، ولو شاهدتهما عند أعدائها. فأحسن الوسائل لحفظ معاهدة هذه الأمّة الجليلة لنا إنّما هو أن نسير مع الوقت ونترقّى في مراتب التمدّن والانتظام ترقّيًا يؤثّر بأذهان الفرنسويين وعقولهم معًا؛ إذ لا ريب في أنّ هذه الأمّة عندما تيأس من انصلاح شأننا تجعل هي نفسها أسبابًا تكمل هلاكنا.
10: أمّا أوستريا فبسبب ما هي عليه من انشغال الفكر في شأن مصالحها بأوروبا اقتصرت إلى الآن على جعل تداخلها بأحوال المشرق منحصرًا في حيّز وجيز. إلا أنّها قد أخطأت مدّة حرب القريم (أي القرم) خطأ جسيمًا لا يمكنها إصلاحه. وحيث إنها طردت من جرمانيا، لا ريب أنها ستجنح من الآن فصاعدًا إلى إمعان النّظر في الأخطار العظيمة الملمّة بها من جهة الشمال وهي الأخطار نفسها الملمّة بنا ولكن أقلّ من إلمامها بأوستريا. فلذلك ما دامت هذه الدولة مثابرة على سياسة حزيمة حاذقة تكون هي الحليف الحقيق للباب العالي. وفي واقع الأمر أنّ الداهية المهولة التي نراها منذ نحو قرن عتيدة أن تصيب المشرق لا يمكن دفعها بالكلية إلا بمعاضدة دولة أوستريا المعاضدة الفعليّة مع الإمداد لنا من الدول الغربيّة”.
11: أمّا دولة بروسيا فيكاد أن يصحّ القول عنها أنّها شاهدت إلى الآن أحوال المشرق بعدم المبالاة ويحتمل الأمر أن مراعاة مآرب سياسيّة تحملها على قبول أن تجعلنا ضحيّة لوحدة جرمانيا، ولكن بعد نجاز الوحدة لا بدّ لجرمانيا أن تنتبه يومًا وترى أنّه كان لها هي أيضًا في المشرق مصلحة مهمّة كان من الواجب عليها أن تجتهد في حرسها والذبّ عنها، وإني أسأل الله أن يجيرنا من أن تشتري بروسيا يومًا هلاك أوستريا بما لنا من الأقاليم في أوروبا.
12: فالآن أريد التكلّم على روسيا التي هي عدوّنا الأكبر ذو الصولة والاقتدار، فأقول إن هذه الدولة محتوم عليها بإدمان السعي ولا بدّ من دوام من جهة المشرق. وللتحرّز من هذا الخطر العظيم لا يكفينا الاتّكال بسذاجة الأولاد الصغار على مجرّد حقوقنا، بل يلزم أن تكون لنا قوّة حقيقيّة فعليّة كافية للدفع عن أنفسنا وقت الحاجة، ولا أعني بذلك قوّتنا القديمة البالية التي لا يمكن إحياؤها، بل القوّة الجديدة التي لا يسطو عليها شيء –القوّة التي تتحصّل بالعلوم والفنون والمعارف والتنظيمات الحديثة- القوّة التي يحوزها الآن كلّ من أمم أوروبا. فإنّ دولة روسيا قد ترقّت منذ مدّة بطرس الكبير ترقّيًا عجيبًا، وعمّا قريب سككها الحديديّة تزيد قوّتها المرّة عشرة أضعاف. والذي أراه لدولة الإنكليز من عدم الالتفات إلى الأحوال الجارية في بحر الروم يهولني ويحيّرني جدًّا ولكنّي حزين على الخصوص من التبديل الذي وقع في أحوال دولة روسيا عن ترييض جبل الكوكاز. فعلى جلالتكم إذن ببذل الجهد من دون تراخ ولا انقطاع في تنظيم قوانا وإصلاح شأننا فإنّه من يعلم إن كانت الدول المعاهدة لنا تستطيع إدراكنا دائمًا بالأمداد في الوقت المناسب لانتفاعنا به.
13: هذا ولننتقل الآن إلى مملكة فارس، فأقول إنّ حكومة تلك البلاد التي أهلها ضرّابو فتن ويسطو عليهم الغلو في الدين الذي للطائفة الشيعيّة كانت دائمًا تعاضد أعداءنا علينا، وفي مدّة حرب القريم انضمّت إلى دولة روسيا. وما منع الشاه من إنفاذ فينا إلاّ عدم تغافل الدول الغربيّة، والآن دولة فارس منقادة إلى دولة روسيا الانقياد التام، وما دام الباب العالي متفرّغًا من الحروب فالدولة الفارسية التي هي دولة عديمة الحزم كثيرة الجهل والغباوة لا اعتبار لها بين الدول ولا ابتدار في الأمور، لن تتجاسر على معاداتنا ولا على الافتراء علينا، ولكن إذا وقعت حرب بيننا وبين روسيا تكون دولة فارس من أشدّ أعدائنا بسبب انقيادها السياسي المطلق لتلك الدولة وعظيم حسدها لنا، ومن سعد البخت أن دولتنا لم تزل حائزة من القوّة الفعلية ومن السطوة ما يكفي لجزر تلك الدولة المعدومة النخوة والمروّة بسبب ظلم حكّامها، ولا يعرف أحد الأمور والمصالح المهمّة التي يمكن إلمام الخطر بها من هذا القبيل حقّ المعرفة إلاّ علي باشا فإنّه خبير بكلّ ما يتعلّق بهذه النازلة ويستطيع شرح ذلك لجلالتكم الشرح التام.
14: ولا ينبغي أن نغفل عن مملكة اليونان، فإنّ هذه المملكة مع ضعفها في ذاتها يمكن أن تضحو سيفًا ماضيًا في يد دولة معادية لنا. ولمّا أنشئت هذه المملكة التي ليس لها في الواقع من الممالك المنتظمة سوى الاسم توهّم منشئوها أنّه يتيسّر لهم بذلك إحياء أمّة دثرت منذ ألفي سنة، توهّموا أنّه يمكن لهم إعادة عمران بلاد أميروس وأرسطو ولكنّهم لم ينشئوا في الحقيقة إلا مجتمعًا للدسائس والفتن ومأوىً للطغاة والأشقياء. ولا ريب أنّ الباب العالي يجد بين رعاياه من اليونان خَدَمَةً أذكياء ولكنّما عرق الجنسيّة اليونانيّة يستمر أبدًا مضادًّا لمصلحتنا لأنّ يونان هذا العصر المتّصفين بالطمع محبّ النفس لم يزالوا يتذكّرون مدّة أسلافهم وما كان لها من الفخر والشهرة، مع أنّ تلك المدّة يفرق بينها وبينهم أجيال عديدة مقرونة بالفساد والجهل والنغولة ويعلّلون أنفسهم بأمل الاستيلاء يومًا على المشرق الذي أذلّته أسلافهم بإنشاء بزانتيّة (أي بيزنطة)، وأحسن الكفالات التي لنا للاحتراز من هذه الطائفة الرديئة المكرة إنّما هو كبرياؤها واعتزالها اللذان يصيرانها مكروهة عند سائر الأمم الشرقيّة الأخر، فيلزم أن تكون غاية سياستنا إفراد اليونان عن باقي نصارى المشرق وأن نمنع البلغار من الوقوع في حكم الكنيسة الأرثذكسيّة مع حفظنا إيّاهم من السقوط في قبضة الروس أو الرومان، وكذلك ينبغي ألا يسمح الباب العالي بدوام الحيل المقصود بها غرّ الأرمن إلى الكنيسة الأرثذكسية المذكورة ولكن في مقابلة ذلك يلزم ضرورة أن نجعل الدولة بمعزلة من سائر المسائل الدينيّة.
15: كلّ اجتهادنا في منهاج سياستنا الداخلية يلزم أن يكون موجّهًا إلى غاية واحدة وهي مزج الأجناس بعضها مع بعض، إذ من دون هذا المزج أظنّ أن استمرار بلادنا دولة واحدة متّحدة يكون أمرًا مستحيلًا، وعلى هذا ينبغي من الآن فصاعدًا أن دولتنا لا تبقى مختصّة بطائفة أن ملّة معلومة دون الطوائف والملل الأخرى الكائنة في البلاد؛ لأنّ الدول الشرقيّة لا يمكن أن تقوم إلاّ إذا أُسّست على قاعدة اتّحاد جميع الأمم التي في المشرق. نعم إنّ بلادًا مثل جرمانيا مثلًا مع اتّساعها وكثرة سكّانها أو مثل فرنسا ذات الأربعين مليونًا من السكّان أو مثل إنكلتيرة التي رسمت حدودها الطبيعة نفسها أو مثل غيرها من سائر الدول الكبار يمكن لها أن تستمرّ متّحدة مدّة طويلة بنظامها واقتدارها وتكون مفيدة للجنس البشري، ولكن دولة كدولة المونتينيغرو (أي القاره داغ) أو كإمارة السرب أو غيرها من الدول التي ليست مكوّنة إلا من فرع أو شعبة صغيرة لا يمكن قيامها ولا فائدة من وجودها لخصوص أهلها أو للأمم الأخر بل لا يمكن أن تكون سوى دولة وهميّة حاوية لرعابيل مشومة من بقايا وحدة الجنس البشري المفقودة، ولا بدّ لها من أن تقع يومًا غنيمة لبعض الغزاة في الأجيال المستقبلة، وهي من الموانع للترقّي في درجات التمدّن كما هي خطر مستديم لراحة العالم، فإنّ الدول في أيّامنا هذه جلّها مبني على قاعدة الاجتماعات الكبار ولا يمكنها أن تدون إلا بهذه القاعدة. فينشى من هذا أنّ الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها تجديد نشأة دولتنا إنّما هي أن نؤسّسها على أساسات متينة وقواعد صالحة لأن تضمّ جميع الأجناس وجميع الأديان وتجعلهم متساوين في الحقوق والمزايا. وهذا المساواة لا بدّ لها من أن تفتح باب الوظائف والخطط للنصارى فيحصل لنا حينئذ من ذلك صعوبات جسيمة، لأن النصرى (أي النصارى) عندما يحرّرون من قيد الذلّ والمحكوميّة الذي مكثوا فيه كلّ هذه المدّة الطويلة لا أظنّهم يعدلون عمّا لهم من الميل إلى تبديل أسيادهم القدم بأسياد جدد وخصوصًا طائفة الأرمن التي عندها من هذا الميل أكثر ممّا عند غيرها. فيلزم والحالة هذه ألا نقلّد الوظائف إلا لأولئك الذين يقبلون قاعدة وحدة السلطنة قبولًا خالصًا من كلّ مخادعة. ولا يخفى أنّ لكلّ من الطوائف النصرانيّة المستقرّة في بلادنا عقيدة دينية وعقيدة سياسيّة، فالأولى ينبغي أن نجهلها على الإطلاق ولكنّما يجب علينا أن نراقب الثانية أشدّ المراقبة لأنّها كثيرًا ما تكون منافية لنفس وجودنا. على أنّه لا يعنينا مثلا حالة كون الباشا الفلاني يعبد الله على طريقة الملّة الموسويّة أو طريقة الملّة العيسويّة ولكن إذا كان هذا الباشا يطلب إنشاء سلطنة بيزنتية مثلًا أو سيليقية لا بدّ من طرده كخادم خائن لمخدومه، وعلى هذا أودّ ألا يطلب من جميع أرباب الخطط والوظائف إلا الاعتقاد بقاعدة واحدة وهي قاعدة وحدة الدولة والوطن التي أساسها مساواة الجميع.
16: ولإظهار عجائب هذه القاعدة الجزيلة الفوائد يلزم لجلالتكم قبل كلّ شيء أن تنظّموا مجالس الأحكام وقوانينها وهذا العمل إنّما هو كثير الصعوبة ولكنه ضروري لا يمكن الاستغناء عنه. ثمّ بعد أن تكونوا أمّنتم كلّ إنسان في ماله وبدنه التأمين التام يلزم أن توجّهوا عناية دولتكم إلى إنشاء السكك الحديديّة، وإني على يقين بأنّ اليوم الذي يكون فيه لبلادنا سكك حديديّة بقدر ما للدول الإفرنجية الأخر تصبح جلالتكم في ذلك اليوم أيضًا صاحب أعظم سلطنة في العالم.
17: ومن الأمور الفائقة الأهميّة أيضا أمر التعليم العمومي- أي أمر المكاتب والمدارس العموميّة والخصوصيّة- فإنّ الأساطيل الضخمة والجيوش الغفيرة بل وحسن التنظيم الداخلي مع ما ينشأ عنه من الخيرات إنّما لا تكفي لتمكيننا من الاستقرار على أصل معيّن إذا أهملنا مُجاراة الأمم الأخر في حسن التربية وإتقان العلوم والفنون والمعارف كلّ الإتقان. وناهيكم أنّه من دون ذلك لن يتأتّى لنا حوز الحريّة بكلّ ما يلزمها من الكفالات بل ولا الأمل بطول البقاء في الأجيال الآتية.
18: ومع أنّ ديانتنا في نفسها لا تنافي اكتساب المعارف المفيدة وتهذيب العقل، بل تأمر بذلك، بقي العلم عندنا دون ما هو عند غيرنا بكثير لأسباب شتّى يطول شرحها هنا، والحال أن مدارسنا العديدة والمبالغ الوافرة الموقوفة لها وتصرف عليها في كل عام بلا كبير فائدة إنّما هي صالحة لأن تمكّننا من الوسائل اللازمة لإنشاء ترتيب شامل لأحسن طرائق التعليم العمومي الأهلي. أمّا أنا فعدم سعي في إنفاذ هذا الرأي الجليل الخطير إنّما هو كون ظروف حالية نكدة منعتني من ذلك.
19: وإنّي أعلم أن كثيرًا من مسلمي بلادنا سيلعنونني ويعتدونني كافرًا (كاور) وعدوًّا للدين، وأمّا أنا فإنّي أسامحهم على غضبهم هذا لأنّهم غير قادرين على إدراك عواطفي ولا على فهم حقيقة معنى كلامي، ولكنّهم سوف يرون أنّ الذي اعتدّوه كافرًا (كاورا)، ولعنوه كما يُلعن أهل البدع كان أكثر تقوىً من أيّ كان من أولئك الجهلاء الغيورين الذين يقذفون بي الآن. بل سيعلمون ولكن يا أسفاه حيث لا ينفع العلمي بأنّي عاركت معاركة الشهداء وأزيد لإنجاء ديانتنا ودولتنا من التورّط في ورطات الهلاك الذي هو أنفسهم هياوها لهما تهيئة لا مفرّ منها. ولا يخفى أن الشريعة الأولى من سائر الشرائع الإلهية والإنسانية هي شريعة حفظ الذّات، فهل قصدت أنا شيئا آخر في كل ما سعيت في إحداثه من الإصلاحات سوى إعزاز دين الإسلام وحفظه من التلاشي، ولكن سعيي لم يكن بالانقياد المطلق للأوهام القديمة المرسّخة في عقول الأغبياء، وإنّما كان بالوسائل المبنيّة على العقل المتهذّب المتنوّر، وهي التي جعلها الله سبحانه وتعالى وسيلة انجاع لدين الإسلام ولسائر الأديان الأخرى الكائنة على وجه الأرض. هذا ولا تساعدني يدي على زيادة الابساط في هذا الموضوع وأختم كلامي بتقديم الرجاء لجلالتكم بأن تنصتوا إلى كلام خديمكم هذا الذي مع كونه لم يخل من العيوب الخاصّة بالطبيعة الإنسانية ثابر دائم على حبّ البشر وأراد الخير في العالم، وعند انقضاء أجله اليوم ترونه قابل الرحيل من هذه الدار بلا تأسّف، وإنّي مائت على دين الإسلام مُسلمًا أمري لخالقي وطامعًا برحمته أنه هو الملك الديّان والباري الغفور المنّان”([62]).
الهوامش
([1]) دكتوراه في التاريخ والآثار والتراث، باحث بمدرسة الدكتوراه بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعيّة بتونس.
([2]) للتوسّع في مسألة “الصّدارة العظمى” انظر: عبدالرحيم بنحادة، العثمانيون- المؤسسات والاقتصاد والثقافة، الرباط، دار اتصالات سبو، 2008.
Robert Mantran, « L’Empire ottoman: une conception pragmatique du pouvoir », Comptes rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, Année 1993 137-3 pp. 757-763
([3]) الرائد التونسي، العدد 16، 6 ذو الحجة 1286/9 مارس 1870، ص3- 4.
([4]) وجيه كوثراني، الاتّجاهات الاجتماعية والسياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي: من التصرفيّة العثمانيّة إلى دولة لبنان الكبير، منشورات بحسون الثقافيّة، بيروت، 1986، ص65.
([5]) للتوسّع في فهم عصر السلطان عبدالعزيز الأوّل انظر: إسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1996.
([6]) الرائد التونسي، العدد 9، 26 صفر 1296/19 فيفري 1879، ص3.
([8] ) جوردن برانش، الدولة الخرائطيّة: الخرائط والاقليم وجذور السيادة، ترجمة: جلال عزّ الدين/ عاطف معتمد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017، ص135.
([9]) تيموثي ميتشل، استعمار مصر، ترجمة: بشير السباعي/ أحمد حسّان، مدارات للأبحاث والنشر، مصر، الطبعة الرابعة، 2016، ص.173- 218.
([10]) شوكت باموك، التاريخ المالي للدولة العثمانية، ترجمة: عبداللطيف الحارس، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2005، ص369- 370.
([12]) الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (عمل جماعي)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط: جامعة محمد الخامس، المغرب، 1986م.
([13]) خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تمهيد وتحقيق: المنصف الشنوفي، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون: بيت الحكمة، قرطاج، 2000، المجلد الأول، ص.102- 103+ ص135- 157.
( [16]) محمد كريم، “رواد الاصلاح: خير الدين التونسي نموذجا”، أعمال ندوة الاصلاحات الدستورية والسياسية في المغرب العربي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش، المغرب، 1999، صص. 87-93
([18]) خير الدين التونسي، مصدر مذكور، ص 188.
([21]) دونالد كواترت، “عصر الإصلاحات: 1812- 1914″، ضمن: التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية. المجلّد الثاني: 1600- 1914، تحرير: خليل إينالجك بالتعاون مع دونالد كواترت، ترجمة: قاسم عبده قاسم، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007، ص.489-736، ص489.
([22]) المرجع نفسه، ص502- 509.
([25] ) المرجع نفسه، ص592- 600.
([26]) ميري شيفير موسنسون، العلم عند العثمانيين: الإبداع الثقافي والتبادل المعرفي، ترجمة: محمد شعبان صوان، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، الجزائر/ بيروت، 2019، ص85.
([27]) الرائد التونسي، العدد 4، 16 محرم 1296/10 جانفي 1879، ص2.
([28] )فيكتور كيرنان، سادة البشر: المواقف الأوروبيّة من الثقافات الأخرى في العصر الامبريالي، ترجمة: معين الإمام، منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، الدوحة، 2017، ص109.
([29]) جين هاثاواي (بالتعاون مع كارل ك. بربير)، البلاد العربية في ظلّ الحكم العثماني: 1516- 1800، ترجمة: محمد شعبان صوان، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، الجزائر/ بيروت، 2018، ص.326- 332.
([30]) إيان موريس، لماذا يهيمن الغرب اليوم؟ أنماط التاريخ وما تكشفه لنا عن المستقبل، ترجمة: روان القصاص، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2018، ص654.
([31]) هربرت فيشر، أصول التاريخ الأوروبي الحديث: من النهضة الأوروبيّة إلى الثورة الفرنسيّة، ترجمة: زينب عصمت راشد/ أحمد عبدالرحيم مصطفى، المركز القومي للترجمة، مصر، 2019، ص16- 17.
([32]) أشيل مبيمبي، نقد العقل الزنجي، ترجمة: طواهري ميلود، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، بيروت/ الجزائر، 2018، ص28- 98.
([33] ) ريتشارد إي نيسبت، جغرافيّة الفكر: كيف يفكّر الغربيّون والآسيويّون على نحو مختلف ولماذا؟، ترجمة: شوقي جلال، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة عدد 312، الكويت، فيفري 2005، ص47-60.
([34] )عبدالله إبراهيم، المركزيّة الغربية: إشكاليّة التكوّن والتمركز حول الذّات، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1997، ص229.
([35]) أميا كومار باغتشي، العبور الخطر: الجنس البشري والصعود العالمي لرأس المال، ترجمة: عمر سليم التلّ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2019، ص404- 408.
([37]) أشيل مبيمبي، نقد العقل الزنجي، مرجع مذكور، ص113.
([38]) سمير أمين، التراكم على الصّعيد العالمي: نقد نظريّة التخلّف، ترجمة: حسين قبيسي، دار ابن خلدون، بيروت، د.ت، ص129- 147.
([40] )المرجع نفسه، ص.606+ ص618.
([41]) ميري شيفير موسنسون، العلم عند العثمانيين: الإبداع الثقافي والتبادل المعرفي، ترجمة: محمد شعبان صوان، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، الجزائر/ بيروت، 2019، ص40.
([42] )ميري شيفير موسنسون، العلم عند العثمانيين: الإبداع الثقافي والتبادل المعرفي، ترجمة: محمد شعبان صوان، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، الجزائر/ بيروت، 2019، ص182- 183.
([43]) خليل إينالجك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد م. الأرناؤوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 2014، ص191-217.
([44]) الرائد التونسي، عدد 48، 3 ذو الحجة 1293/20 ديسمبر 1876، ص1-2
([45]) أكمل فؤاد باشا بقيّة حياته في فرنسا بسبب “الاستبداد الحميدي” الذي أجبر عددًا مهمًّا من الإصلاحيين على مغادرة الدولة العثمانيّة “نحو أوروبا ليقيموا في عواصمها، لا سيما في باريس”. انظر: وجيه كوثراني، الاتّجاهات الاجتماعية والسياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي: من التصرفيّة العثمانيّة إلى دولة لبنان الكبير، منشورات بحسون الثقافيّة، بيروت، 1986، ص141- 142.
([46]) الرائد التونسي، العدد 10، 23 شوّال 1286/ 26 جانفي 1870، ص.2- 3، الرائد التونسي، العدد 11، 1 ذي القعدة 1286/2 فيفري 1870، ص.1- 2، الرائد التونسي، العدد 12، 8 ذو القعدة 1286/ 9 فيفري 1870، ص1- 2، الرائد التونسي، العدد 15، 29 ذو القعدة 1286/ 2 مارس 1870، ص3.
([47]) وجيه كوثراني، الاتّجاهات الاجتماعية والسياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي: من التصرفيّة العثمانيّة إلى دولة لبنان الكبير، منشورات بحسون الثقافيّة، بيروت، 1986، ص106- 109.
[48] تضاعف توجّس السلطة العثمانيّة تجاه الرّوس خاصّة مع تحالف الرّوس مع الإيرانيّين، فقد “كانت روسيا هي صاحبة قصب السّبق في إيران بإبرامها معاهدتي 1813 و1828 التي فرضتا رسوما موحّدة مقدارها 5 % على الواردات والصادرات”. انظر: شارل عيسوي، التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ترجمة: سعد رحمي، دار الحداثة، بيروت، 1985، ص37.
([49]) مسعود ضاهر، الدولة والمجتمع في المشرق العربي (1840- 1990)، دار الآداب، بيروت، 1991، ص.27- 112؛ الشرق الأوسط الحديث، الجزء الثالث: بناء الأيديولوجيات القومية والسياسات حتّى سنة 1950، تحرير: ألبرت حوراني/ فيليب خوري/ ماري ويلسون، ترجمة: أسعد صقر، مدارات للأبحاث والنشر، مصر، 2016، المجلّد الثاني، ص.7- 279.
([50]) الرائد التونسي، العدد 49، 10 ذو الحجة 1293/27 ديسمبر 1876، ص.1-2.
([51]) تُبرز لنا الأحداث التي أعقبت زمن فؤاد باشا، أي آخر القرن 19 وبداية القرن 20، صدق حدسه الذي بثّه في وصيّته، وعلاقة هواجسه تجاه أفكار وإيديولوجيات الدولة القومية ذات السيادة في تفكّك الدولة العثمانيّة. انظر: ناجي علّوش (إشراف وتحرير)، الحركة العربيّة القوميّة في مائة عام (1875- 1982)، دار الشّروق، عمان، 1997.
([52]) إدموند جوف، علاقات دوليّة، ترجمة: منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993، ص.37
([53]) هندريك سبروت، الدولة ذات السيادة ومنافسوها: تحليل لتغيّر الأنظمة، ترجمة: خالد بن مهدي، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2018، ص169.
([54] ) موريس أبو ناضر، أفكار جديدة لعالم جديد: فصول في سلطة المعرفة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1995، ص.52- 53.
([55]) وجيه كوثراني، الاتّجاهات الاجتماعية والسياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي: من المتصرفيّة العثمانيّة إلى دولة لبنان الكبير، منشورات بحسون الثقافيّة، بيروت، 1986، ص.36- 37.
اعتمدت التنظيرات السياسيّة منذ فترة مبكّرة من الحضارة العربيّة الإسلامية على تيمة العدل باعتباره ركيزة أٍساسيّة للحكم. انظر: جعفر البيّاتي، مفهوم الدولة عند الطرطوشي وابن خلدون، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة (تونس)، 1999، ص.309-318.
([56]) وجيه كوثراني، الاتّجاهات الاجتماعية والسياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي: من المتصرفيّة العثمانيّة إلى دولة لبنان الكبير، منشورات بحسون الثقافيّة، بيروت، 1986، ص.42- 43.
([60]) رودريك ه. دافيسون، “المواقف التركيّة من المساواة الإسلامية المسيحيّة في القرن التاسع عشر”، ضمن: الشرق الأوسط الحديث، المجلّد الأول: طلائع الإصلاح وتبدّل العلاقات مع أوروبا (1789- 1918)، تحرير: ألبرت حوراني/ فيليب خوري/ ماري ويلسون، ترجمة: أسعد صقر، مدارات للأبحاث والنشر، مصر، 2016، صص.94- 125، ص.100- 103.
([62]) الرائد التونسي، العدد 10، 23 شوّال 1286/ 26 جانفي 1870، ص.2- 3؛ العدد 11، 1 ذي القعدة 1286/2 فيفري 1870، ص.1- 2؛ العدد 12، 8 ذو القعدة 1286/ 9 فيفري 1870، ص.1- 2؛ العدد 15، 29 ذو القعدة 1286/ 2 مارس 1870، ص.3
المصادر والمراجع:
الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (عمل جماعي)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط: جامعة محمد الخامس، المغرب، 1986م.
إي نيسبت، ريتشارد، جغرافيّة الفكر: كيف يفكّر الغربيّون والآسيويّون على نحو مختلف ولماذا؟، ترجمة: شوقي جلال، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة عدد 312، الكويت، فيفري 2005م.
إينالجك، خليل تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد م. الأرناؤوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 2014م.
باغشي، أميا كومار، العبور الخطر: الجنس البشري والصعود العالمي لرأس المال، ترجمة: عمر سليم التلّ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2019م.
باموك، شوكت، التاريخ المالي للدولة العثمانية، ترجمة: عبداللطيف الحارس، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2005م.
برانش، جوردن، الدولة الخرائطيّة: الخرائط والإقليم وجذور السيادة، ترجمة: جلال عزّ الدين/ عاطف معتمد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017
بنحادة، عبدالرحيم، العثمانيون. المؤسسات والاقتصاد والثقافة، الرباط، دار اتصالات سبو، 2008م.
البيّاتي، جعفر، مفهوم الدولة عند الطرطوشي وابن خلدون، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة (تونس)، 1999م.
التونسي، خير الدين، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تمهيد وتحقيق: المنصف الشنوفي، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون: بيت الحكمة، قرطاج، 2000م، المجلد الأول
جوف، إدموند، علاقات دوليّة، ترجمة: منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993م.
الرائد التونسي، العدد 4، العدد 9، العدد 10، العدد 11، العدد 12، العدد 15، العدد 16، العدد 48، العدد 49.
سبروت، هندريك. الدولة ذات السيادة ومنافسوها: تحليل لتغيّر الأنظمة، ترجمة: خالد بن مهدي، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2018م.
سمير، أمين. التراكم على الصّعيد العالمي: نقد نظريّة التخلّف، ترجمة: حسين قبيسي، دار ابن خلدون، بيروت، د. ت.
الشرق الأوسط الحديث، المجلّد الأول: طلائع الإصلاح وتبدّل العلاقات مع أوروبا (1789- 1918)، تحرير: ألبرت حوراني/ فيليب خوري/ ماري ويلسون، ترجمة: أسعد صقر، مدارات للأبحاث والنشر، مصر، 2016، ص94- 125.
شيفير موسنسون، ميري. العلم عند العثمانيين: الابداع الثقافي والتبادل المعرفي، ترجمة: محمد شعبان صوان، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، الجزائر/ بيروت، 2019م.
عبدالله، إبراهيم، المركزيّة الغربية: إشكاليّة التكوّن والتمركز حول الذّات، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1997م.
علّوش، ناجي (إشراف وتحرير)، الحركة العربيّة القوميّة في مائة عام (1875- 1982)، دار الشّروق، عمان، 1997م.
عيسوي، شارل. التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ترجمة: سعد رحمي، دار الحداثة، بيروت، 1985م.
فيشر، هنري. أصول التاريخ الأوروبي الحديث: من النهضة الأوروبيّة إلى الثورة الفرنسيّة، ترجمة: زينب عصمت راشد/ أحمد عبدالرحيم مصطفى، المركز القومي للترجمة، مصر، 2019م.
كواترت، دونالد “عصر الإصلاحات: 1812- 1914″، ضمن: التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية. المجلّد الثاني: 1600- 1914، تحرير: خليل إينالجك بالتعاون مع دونالد كواترت، ترجمة: قاسم عبده قاسم، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007، ص489-736.
كوثراني، وجيه، الاتّجاهات الاجتماعية والسياسيّة في جبل لبنان والمشرق العربي: من التصرفيّة العثمانيّة إلى دولة لبنان الكبير، منشورات بحسون الثقافيّة، بيروت، 1986م.
كيرنان، فيكتور، سادة البشر: المواقف الأوروبيّة من الثقافات الأخرى في العصر الامبريالي، ترجمة: معين الإمام، منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، الدوحة، 2017م.
مبيمبي، أشيل، نقد العقل الزنجي، ترجمة: طواهري ميلود، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، بيروت/ الجزائر، 2018م.
محمد، كريم “رواد الاصلاح: خير الدين التونسي نموذجًا”، أعمال ندوة الإصلاحات الدستورية والسياسية في المغرب العربي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش، المغرب، 1999، صص. 87-93
مسعود، ضاهر. الدولة والمجتمع في المشرق العربي (1840- 1990)، دار الآداب، بيروت، 1991
موريس أبو ناضر، أفكار جديدة لعالم جديد: فصوب في سلطة المعرفة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، م، 1995م.
موريس، إيان، لماذا يهيمن الغرب اليوم؟ أنماط التاريخ وما تكشفه لنا عن المستقبل، ترجمة: روان القصاص، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2018م.
ميتشل، تيموثي، استعمار مصر، ترجمة: بشير السباعي/ أحمد حسّان، مدارات للأبحاث والنشر، مصر، الطبعة الرابعة، 2016م.
هاثاواي، جين (بالتعاون مع كارل ك. بربير)، البلاد العربية في ظلّ الحكم العثماني: 1516- 1800، ترجمة: محمد شعبان صوان، ابن النديم للنشر والتوزيع/ دار الروافد الثقافية ناشرون، الجزائر/ بيروت، 2018
ياغي، إسماعيل، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1996م.
Mantran, Robert « L’Empire ottoman: une conception pragmatique du pouvoir », Comptes rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, Année 1993 137-3 pp. 757-763