أ. د. محمد صالح زيباري
م. م عماد شاكر أحمد
أ. د. محمد صالح زيباري [1])
الملخص:
تعد البيئة الطبيعية في حضارة كُردستان القديمة شمال بلاد الرافدين من العوامل المؤثرة في تحديد مسار المعتقدات والطقوس لإنسان بلاد الرافدين، وعلاقته بالحيوانات التي رافقت وجود الإنسان القديم وحياته خلال مسيرة حياته في فترات العصور الحجرية (ما بين مرحلة جمع القوت وإنتاج القوت) قد أثرت ونال بعضها التقديس والاحترام من قبل الإنسان، كما أن إنسان الكهوف والقرى الأولى قد تعايش مع الحيوانات التي دجنها فيما بعد، مثل الماعز الجبلي وغيرها من الحيوانات التي كانت تعيش على المراعي الطبيعية في المناطق السهلية وشبه الجبلية.
لقد أخذت العلاقة بين الإنسان والحيوان طابعا مميزا خاصة بعد انتقال الإنسان من حياتهالبدائية إلى الحضرية فالأكثر تحضرا، وسيتناول البحث جوانب من تلك الطقوس التي ترتبط بمعتقد الإنسان وتفكيره والتي لها علاقة بوجود الحيوان مع الإنسان في حضارة كُردستان القديمة (شمال بلاد الرافدين).
الكلمات المفتاحية: بلاد الرافدين، رمزية الحيوان، حضارة كُردستان، المعتقدات الدينية، الطقوس.
Abstract:
Aspects of the religious beliefs of man and their relationship to animals in Kurdistan civilization
The natural environment in the ancient civilization of Kurdistan (north Mesopotamia) is one of the factors affecting the determination of the path of the beliefs and rituals of Mesopotamia. The animals that accompanied the existence and life of the ancient man during the course of his life in the periods of the stone ages (between food gathering Stage and food producing stage) have influenced and received some reverence and respect by man, especially since most animals resemble humans In terms of biological characteristics, such as organs, limbs, head, eye, etc., of common senses and characteristics in the age of caves and rock shelters.
The relationship between man and animal has taken on a special character, especially after the transition of man from his primitive life to the most civilized urban.The search will provide information about these rituals that are relating to the human belief and thought, which have to do with the existence of animals with humans in the civilization of ancient Kurdistan north Mesopotamia.
Key words: Mesopotamia, Symbolism of the Animal, Kurdistan civilization, Religion beliefs, Rituals.
المقدمة:
من المتعارف عليه بين أوساط الباحثين في علم الانثروبولوجيا أن أغلب الحيوانات تشبه الإنسان من حيث الصفات البيولوجية كالأعضاء والأطراف والرأس والعين،… إلخ من الحواس والصفات المشتركة خاصة في بداية تعارف الإنسان مع الحيوان في عصر الكهوف والملاجئ الصخرية([2])، التي كان يصطادها في مراحل حياته البدائية الأولى)[3]).
لذا فمن الممكن أن إنسان حضارة كُردستان قد اهتم بموضوع تقديس أنواع مميزة من الحيوانات، بحيث أصبحت دافعا إلى ظهور طقوس دينية تتعلق بالحيوان منذ آلاف السنين([4]).
وعليه فسيكون محور البحث حول طبيعة هذه العلاقة بين الإنسان والحيوان في المراحل الأولى للحياة البشرية مع التركيز على اختيار نماذج من تلك الحيوانات التي رافقت الإنسان وأثرت فيه بحيث كان يقدس بعضًا منها بينما كان يتعايش بسلام مع بعضها الآخر، وسنعرض نماذج مصورة لمنحوتات كهفيه وصخرية تنشر لأول مرة في دراسة من هذا النوع؛ وذلك في صورة لتعامل الإنسان مع الحيوان في غابر الأزمان. وتكمن أهمية موضوع البحث في أنه يلقي الضوء على طبيعة الحياة الروحية والدينية لإنسان حضارة كُردستان، من خلال تتبع الأثر الديني والروحي لذلك الإنسان، بعد أن وجدنا أن أغلب الدراسات الخاصة بالمعتقدات الدينية لحضارة منطقة كُردستان القديمة قد أخذت منحيين تقليديين لا ثالث لهما، فإما أن تكون تلك الدراسات والأبحاث قد مرّت على الموضوع مرورًا عابرًا وسريعًا أو أنها تناولته بتخصص ضيق ومحدود لا يتعدى عرض الآثار المكتشفة فقط دون الاهتمام بدراسة الأبعاد الروحية والدينية للمعتقدات الخاصة بإنسان حضارة منطقة كُردستان وتحليلها بوجه الخصوص.
أولًا- الرسومات الحيوانية كطقس سحري:
يرى الأثريون والمختصون بالرسوم الأولى، أن الفن على اختلاف أنواعه قد رافق المعتقد الديني كضرورة تماشت مع مشوار حياته الذي بدأه بالعيش إلى جوار الحيوانات غير المدجنة، لاسيما تلك التي رسمها على جدران الكهوف بأشكال تقريبية، أشارت إلى أن الغرض من رسمها لتأدية واجب ديني([5])،ولعل الدوافع الغريزية الموجودة لدى الإنسان وحبه لتقليد الأشياء من حولة، خاصة تلك التي لها حركة تشبه حركته، وإدراكه الحسي من خلال ممارساته اليومية، هي من الأمور التي دفعت الإنسان للميل نحو الفن من خلال التعبير عن الأشكال والواقع حتى إن كانت معقدة أو غامضة([6])،والإنسان البدائي من خلال الوصف المذكور كان إنتاجه الفني ينحصر في تجسيد كل ما يراه في البيئة المحيطة به([7])، معتقدا أنه قد أنجز عملا حقيقيا سيصبح واقعا ملموسا بعد أن قام بتمثيله تصويريا من خلال الرسم، وبذلك يكون قد جسد ما يدور في فكره ومعتقده بما يقترب من الأداء الطقسي الديني.
ومن جانب آخر يمكن أن يكون الرسم المنفّذ من قبل الإنسان القديم نوعًا من تمثيل الواقع للاستعداد النفسي لأفعاله الحقيقية والعملية، ومن ذلك على سبيل المثال، عملية الصيد، فقد كان يمارس على الأرجح طقوسًا معينة بعد اكتمال رسمه، وقبل الشروع بعملية الصيد أو في مناسبات معينة، وهذا يعني أن إقامة مثل تلك الطقوس هو لأجل تكريس حضور الصياد في جو مماثل لجو الصيد الفعلي لاكتساب نوع من الإيحاء الذاتي بالقوة، وبالتالي تيسر له عملية الصيد، فيقبل عليها وهو مطمئن إلى النجاح والتفوق على الحيوان المراد صيده، وهذا يعني تلاشي الخوف من الحيوانات القوية والمفترسة من جهة، والرغبة في السيطرة عليها من جهة أخرى، وهما على الأرجح الدافعين الأساسيين إلى إقامة مثل هذه الطقوس كطابع ديني عقائدي([8]).
ا- مرحلة الصيد والرسوم الطقسية:
يمكن أن نتجاوز فكرة ابتكار رسم الحيوانات على جدران الكهوف، بانها طريقة تتفق مع المستوى العقلي لإنسان حضارة بلاد الرافدين خلال العصور الحجرية، ومحاولته السيطرة على البيئة الطبيعية من حوله، خاصة الحيوانات التي كانت في بيئته الجغرافية والتي كان عليه اصطيادها لتوفير غذائه، فابتكر طريقة الرسم لغرض طقسي، ظنًّا منه أنه كلما كان الرسم مطابقًا للأصل كانت عملية الصيد أكثر نجاحا، فعندما يكون مسيطرًا ومتمكنًا من البديل الذي رسمه قريبا منه وبين يديه وأمام عينه ليلًا ونهارًا فإن ذلك قد يكون إيمانًا بقدرته على السيطرة على الأصل؛ لذا فقد يكون الغرض من عملية الرسم وممارسته هو تحقيق هدف اقتصادي سعى إليه الإنسان من أجل الحصول على قوته وغذائه بالدرجة الأساس ثم لتهيئة أفكار طقسية بداخله تجعله يتقن عملية الصيد بتجسيد روحي، فضلًا عن ابتكار طريقة للتخلص من بعض الحيوانات الخطرة واتقاء شرها أيضًا، فبدأت تُكتَشف نتاجات فنية لا تمثل أشياء مادية فحسب وإنما لتجسيد أفكار وطقوس دينية([9]).
ومن أقدم نماذج الرسوم الجدارية في شمال بلاد الرافدين (كُردستان) التي تصب في الغرض أعلاه، لوحة جدارية مرسومة تعود إلى دور حسونة تركها على ما يبدو مجموعة من الصيادين في “أم الدباغية”([10]) يحاولون الإيقاع بقطيع من حيوانات الحمر الوحشية (Onagers)([11]) في فخ لغرض اصطيادها)[12](، ولعل الغرض الأساس من هذا الرسم هو القيام بطقس سحري، إذ إن التعبير في التصوير هو بمنزلة قوة سحرية صنعها إنسان “أم الدباغية” للسيطرة على ما حوله من حيوانات يرغب في اصطيادها في بيئته الطبيعية، وبذلك يكون الرسم الجداري بهذا الوصف يحمل تمثلات طقوسية يؤديها الصياد قبل عملية الصيد، تشعره بتفوقه على طرائده، وبالتالي تمكنه من صيدها في واقع الحال، إذ رسم أحد الحمر الوحشية في أعلى يسار المشهد وكأنه معلق بخطاف صيده، بينما ترك الباقيات يجرين بحركة سريعة([13]).(ينظر الشكل رقم -1-)، وهو بهذا الإيحاء أعطى لنفسه قوة سحرية بممارسة هذا الطقس الخاص بالصيد عندما أقنع عينيه وجوارحه وقوته الكامنة، بأنه سوف يتمكن من القبض على أحد حمر القطيع.
(شكل رقم-1-) رسم جداري يعود لفترةحسونة من موقع الأربجية، نقلا عن:
Diana Kirkbride، Umm Dabaghiyah in: Lloys، Seton and Others، Fifty Years of Mesopotamian Discovery، British school of archaeology in Iraq، 1982، p.20.
إن دراسة مواضيع الرسوم ذات الطابع الفني في حضارة بلاد الرافدين القديمة خلال عصور ما قبل التاريخ، تبين أن تلك الرسوم مرتبطة بالفكر والمعتقد الديني، على الرغم من أن تفسيرا واضحا لطبيعة تلك المعتقدات لا يزال كثير منها غير محسوم حسمًا تامًّا وقطعيًّا([14]).بيد أن جوانب من الفنون الخاصة بالحيوانات التي رسمها الإنسان، تجيز للباحثين إعطاء تصور معين بموجب الأدلة المادية المتوفرة، لاسيما تلك الأشكال والرسوم التي نفذها الإنسان على الجدران أو الأواني الفخارية او الألواح الحجرية، ولعل براعة الإنسان القديم ومهارته في رسم الحيوانات ناتج عن قربه من هذه الحيوانات التي كان يصطادها لاسيما تلك الحيوانات التي توفر له غذاء وفيرًا وكافيًا مثل الوعول والبقر الوحشي)[15](.
2-الحيوان صديق الإنسان:
بعد تمكن الإنسان من وضع يده على تلك الحيوانات بات من السهل عليه تفحصها وفهم شكلها، وقد أعطت هذه المشاهدة معلومات عن طبيعة الفهم والمعتقد الذي كان سائدا لدى إنسان حضارة بلاد الرافدين خلال عصور ما قبل التاريخ، ولدينا مشاهد معينة ذكرت الدراسات المختصة أنها ذات طبيعة دينية مقدسة تجمع بين أشكال آدمية وحيوانية ونباتية([16])، ومن بين تلك الاشارات منحوتة “كهف ﮔوندك” (شمال شرق نينوى بحوالي 70 كم) داخل مدينة عقرة، وصفت بأنها عبارة عن مشهد احتفالي مستطيل الشكل (حوالي 1x 2م) في الجهة اليمنى من الكهف، تُظهر بشكل واضع رجلًا جالسًا يرتدي ثوبًا طويلًا، ويلبس تاجًا مقرنًا وكأنه حاكم أو شخص مؤله يطعم بيده اليسرى معزة واقفه على قدميها، وخلف المشهد تكتمل المنحوتة بمشهد لرجل واقف وأمامه أنثى دب ترضع صغيرها (ينظر شكل رقم -2-)، في مشهد احتفالي يتكرر كثيرا في المشاهد الفنية لحضارة بلاد الرافدين حسب تعبير طه باقر)[17](.
ويرجح الآثاري المشهورلويد سيتون (Lioyd Seton) تاريخ المشهد المنحوت إلى بداية معرفة الإنسان للزراعة، وذلك في إشارته إلى التقدم الحاصل في منطقة كهف كوندك،([18]) وبذلك يكون مشهد الحيوانات المرتبطة بالإنسان قد صاحبه منذ فترات مبكرة طقوس ربما تأخذ طابعا دينيا معينا، لاسيما إذا عرفنا أن من زار الكهف من المختصين الآثاريين قد أشار إلى عثوره على ما يشبه المعبد داخل الكهف الصغير الأوسط([19])، إلا أن الباحث لم يكتشف في زيارته ما يؤكد هذه الممارسات تأكيدًا قاطعًا.
(شكل رقم -2-) مخطط لمشهد منحوتة كهف طوندك، نقلا عن: الأمين، محمود، استكشافات أثرية، المصدر السابق، شكل رقم 13.
ثانيًا- أهم انواع الحيوانات ذات البعد الطقوسي الديني:
على الرغم من عدم وجود إشارات معينة تفيدنا بالمعنى الواضح والصريح لرسم بعض الحيوانات أو نحتها لدى الإنسان في حضارة بلاد الرافدين القديمة، إلا أن المعطيات التي كشفتها المصادر المادية تتيح للباحث ان يخمن بصورة أو بأخرى وجود معانٍ ومدلولات فكرية ودينية متوقعة تعامل بها الإنسان مع بعض الحيوانات([20]). ومن بين الحيوانات التي كشفت الدراسات الأثرية المادية الفنية، نجد ما يلي:
أـ الثعبان: كان تمثيل الثعبان في المشاهد الفنية شائعا في عصور ما قبل التاريخ، ومن بين أقدم هذه النماذج نجدها مرسومة على فخاريات من عصر حلف (4500 ق.م) حيث عثر على كسرة فخار من موقع الأربجية منقوش عليها ثعبان من نوع الكوبرا([21](، (ينظر الشكل رقم -3-)، وقطعة فخارية أخرى من الفترة نفسها في موقع ” يارم تبه” بيد أن الأخيرة مصبوغة باللون الأسود)[22](.
(شكل رقم – 3 -) تمثيل الأفعى على فخاريات من عصر حلف (موقع حلف والأربجية)، نقلا عن:
Goff، Beatrice Laura، Symbols of Prehistoric Mesopotamia، London، Yale University، 1963، Fig.76،78.
ويرى المختصون بأساطير بلاد الرافدين أن الأفعى رمز للقوى المولدّة في الأرض، وذلك منذ عصور مبكرة، ومن الطبيعي أن تكون بهذا الوصف ما دامت هي الآلهة المعروفة باسم “الأرض الأم”([23]). وكما هو معروف في معتقد إنسان بلاد الرافدين في عصور ما قبل التاريخ، أن الأرض التي تزود الإنسان والحيوان بالغذاء من خلال الإنبات، هي نفسها الآلهة الأم التي تكثّر النسل وتطعم المولود الجديد وتسقيه في فترة الحضانة، وهي بذلك تتوافق مع الخصائص نفسها للثعبان في معتقد سكان بلاد الرافدين.
لقد زودتنا أعمال التنقيب بنماذج عديدة من القطع الأثرية التي تحوي مشاهد للثعبان من فترات مختلفة من عصور ما قبل التاريخ، واستمر الأمر حتى في العصور التاريخية المتأخرة، وإن دراسة تلك النماذج تؤكد أن للثعبان دورًا مهمًّا في حياة الإنسان القديم، وأن تأثير الثعبان على فكر الإنسان الرافدي قديمًا ذو صلة بالعبادة والطقوس وما يتصل بهما من أفكار دينية([24]).
ب ـ الكلب: من الحيوانات الأخرى التي ظهرت موضوعات لها في الأدلة المادية (العظام) أو المشاهد الفنية -خصوصا المنحوتات والرسوم الحيوانية لفترة عصور ما قبل التاريخ- نجد حيوان الكلب، ولعله من بين أقدم الحيوانات التي وجد هيكله العظمي مدفونا بالقربمن سكن الإنسان منذ العصر الحجري الوسيط؛ وذلك ضمن المخلفات العظمية التي أظهرتها نتائج التنقيب في كهف “بالي كورا”)[25](؛ لذا فمن الضروري أن يحتل هذا الحيوان في مخيلة الفنان القديم حيِّزا من رسوماته أو منحوتاته أو دماه الطينية والحجرية، إذ وصلتنا نماذج عديدة لدمىً من الطين لشكل الكلب بأحجام مختلفة، أقدمها تلك الدمية التي عثر عليها في قرية “جرمو” من العصر الحجري الحديث([26](.
ومن تل “قالينج أغا” في أربيل، وصلتنا نماذج لدمىً طينية تعود لكلاب من عصر حلف منتصف الألف الخامس قبل الميلاد([27])، كما ظهرت دمىً للكلاب على شكل دلايات وتمائم مصنوعة من الحجر اكتشفت في موقع “تبه كورا” تحوي على ثقب من جانب الكتف([28])، (ينظر شكل رقم -4-) يرجح أنها كانت تستخدم تميمة تعلق في الملابس لاسيما للأطفال المرضى.
(شكل رقم -4-) نماذج لدمىً كتمائم تمثل الكلاب من مكتشفات موقع تبه كورا، نقلا عن:
Goff، Beatrice Laura، Symbols of Prehistoric Mesopotamia، London، Yale University، 1963، fig. 213، 214.
وليس غريبا أن تؤدي هذه التمائم وظيفة ذات أبعاد طقوسية دينية، فمن المعروف لاحقا أن الكلب كان يوصف بالحيوان الذي يعالج جروحه بنفسه بلعقها حتى تشفى، ولعل اتخاذ رمز الكلب خلال العصور التاريخية من قبل آلهة الشفاء التي تدعى ” ﮔولا ” (GULA)، إشارة واضحة إلى ارتباط الكلب في الفكر الرافدي القديم بالشفاء من الأمراض)[29](.
ج- الطيور: كانت الطيور من بين الحيوانات التي حظيت بقدسية ومكانة ترتبط بممارسة بعض الطقوس تجاهها، وذلك من وقت مبكر لاستيطان الإنسان في الألف العاشر من العصر الحجري الوسيط، بدليل اكتشاف بقايا أجنحة لطيور، يرجح أنها تمثل الصقور أو العقبان ضمن تنقيبات قرية “زاوي جمي” أو طبقات متأخرة من “شانيدر” كانت قد دُفنت دفنًا متقنًا توحي بتدخل الإنسان في دفنها بكل عناية واهتمام)[30](، كما عثر في رسوم نفذت على صحون الفخار من عصر حضارة حلف، وهي تملئ الفراغ الموجود على الآنية الفخارية وذلك في موقع “تبه كورا”، ويشير ذلك إشارة واضحة إلى اهتمام الإنسان بالطيور، ليس من أجل الزينة أو ملء الفراغ على الآنية أو الصحن الفخاري، بل ربما لدلالات قد تكون لها إشارات تخص ممارسة نوع من الطقوس الدينية. (ينظر الشكل -5-)
(شكل رقم -5-) مشاهد الطيور على فخاريات عصر حلف من موقع تبه كورا، نقلا عن:
Goff,Beatrice Laura, Symbols of Prehistoric Mesopotamia، London،Yale University،1963،fig.81.
ولعل الغرض نفسه كان يدور في مخيلة مزارعي قرية “زاوي جمي” حيث كان اهتمامهم بالطيور على اعتبارها تحمل دلالات طقسية ضمن معتقد اولئك المزارعين([31]).وترجح مصادر أخرى أن تقديس الطيور تعدى إلى نوع من العبادة الخاصة للطيور، حيث كان الطير في الفكر الرافدي القديم يمثل الرياح، لاسيما العقبان والصقور كونها تحلق عاليا وهي تفرد جناحيها، ومن تحتها بنو البشر، فاعتقدوا أن ذلك بمنزلة الحماية لهم، ومشاهد الأختام خير شاهد على ذلك([32]) وقد ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار الطيور الجارحة كالنسور والعقبان تمثل رمزًا دينيا للإله الذكري، إذا اعتبرنا أن الآلهة الأم هي الإله الأنثى، وذلك في معتقد حضارات مجاورة في الشرق الأدنى القديم سواء في بلاد الأناضول أو في حضارة مصر القديمة، التي من المرجح أنها معتقدات انتقلت إليهم من الفكر الرافدي القديم([33]).
وأخيرًا يمكن القول إن الأعمال الفنية المنجزة من قبل إنسان العصور الحجرية على امتدادها قبل أكثر من عشرة آلاف عام هي الأدلة الأكثر وضوحا على فهم طبيعة المعتقدات لدى الإنسان، إذ تضم الكثير من أوجه التقاليد والأعراف والمعتقدات، فمن خلال التجربة والتواصل تصبح تلك التقاليد مترسخة في المجتمع فتترك طابعها على الفن ليمثلها بأشكال رمزية معبرة عن مطامح حركة الفكر، ودراسة هذه الفنون التي نفذها الإنسان القديم، ليس هدفها على ما يبدو التقليد بل الكشف عن النظم الفكرية التي تساعد الإنسان على إقامة طقوس معينة للحصول على المراد الذي يسعى إليه([34])، فالإنسان في حضارة بلاد الرافدين كان يعيش بتماس أكثر مع الطبيعة فكان هنالك نوع من التناسق بين الوجود البشري من جهة والحياة الحيوانية من جهة أخرى لذا وجد في بعض الحيوانات المتواصل معها باستمرار مادة للتأمل واختار منها رموزها، فأصبح لوجود الحيوان في حياته وظيفة تمثل تارة بصورة مباشرة الحقائق المادية والحياتية، وتمثل تارة بصورة غير مباشرة قيمة رمزية دينية([35]).
الخاتمة:
يعد المعتقد الديني بالنسبة لبني البشر وما حوله من مظاهر الطبيعة وما فيها إحدى الحاجات الوظيفية والنفسية للإنسان، والاستعانة بالمعتقد الديني هي إحدى الوسائل المساعدة لتجنب المخاطر الطبيعية التي هددت استقرار الإنسان وبقاءه، ولا يحيد عن ذلك المفهوم الإنسان الأول في أولى تجمعاته البشرية في حضارة كُردستان القديمة، عندما كان يعيش جنبا إلى جنب مع الحيوانات التي فهمها وفهم سلوكها فأصبحت صديقة له استأنسها واستفاد من خيراتها، بينما فهم الأخرى منها على أنها حيوانات مقدسة، فتبلورت رؤية الإنسان من خلال إدراكه للوجود كمعرفة بدائية تم تفعيلها وفهمها فهما ذاتيا على مر العصور، فكان للحيوان نصيب من هذا التفاعل والإدراك حيث تناولنا ذلك في البحث الذي يمكن أن نحصر أهم نتائجه بالآتي:
[1] – جامعة دهوك – كلية العلوم الإنسانية – كُردستان العراق.
[2] – ريتشارد، س.و، موسوعة علم الحيوان، ترجمة عبد الرحمن شحاذة وآخرون، الاسكندرية، 2000، ص8.
[3] – Solecki R L، An Early Village Site at Zawichemi Shanidar، Malibu، 1980، p.68.
[4]-Brock J C، The Early History of Domestical Animals Western Asia، Sumer، Vol.36،Baghdad، 1980، p. 37.
[5]– بصمه جي، فرج، الألواح الحجرية المنقوشة في المتحف العراقي، مجلة سومر، المجلد السابع، بغداد، 1951، ص58.
[6]– ريد، هربرت، معنى الفن، ترجمة سامي خشبة، بغداد، 1986، ص 97.
[7]– هاوزن، ارثون، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة فؤاد زكريا، القاهرة، 1967، ص 17.
[8] – البياتي، عبد الحميد فاضل، هيئة المنحوتات البشرية المدورة في العراق القديم، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة بغداد،1997، ص37.
[9] – غفران رزاق كاظم، الطقوس في الفن العراقي القديم – تمثلات المشاهد الطقوسية على فخار العراق القديم، رسالة ماجستير مقدمة إلى مجلس كلية الفنون الجميلة بجامعة بابل، 2012، ص51.
[10]– يعتبر موقع أم الدباغية من مواقع الاستقرار السكاني التي تعود إلى فترة قريبة من عصر حسونة، يقع على بعد 27 كلم غرب مدينة الحضر، ضمن سفوح جبل سنجار، تبلغ مساحة الموقع الأثري 100x 85م، اكتشفت فيه عدة طبقات من السكن، من بينها غرف مكسوة بطبقة من الجص عليها رسوم جدارية لمشاهد الصيد، فضلًا عن مخلفات عديدة للاستيطان البشري حيث بينت الطبقات الأولى للموقع أنه يعود إلى فترة بداية الألف السادس قبل الميلاد، للمزيد من المعلومات، ينظر:
حجارة، إسماعيل حسين، أوائل العصر الحجري المعدني في شمال بلاد الرافدين (5800-4800 ق.م)، مجلة سومر، مجلد 52، ج1 بغداد،2003 -2004، ص 14؛ الدباغ، تقي والجادر، وليد، عصور قبل التاريخ، بغداد، 1983، ص 140.
[11] – يسمى هذا الحيوان الوحشي بـ”الأخدر” وهو حيوان هجين نصفه حمار، تُعد العظام المكتشفة في موقع “أم الدباغية” لهذا الحيوان، أعلى نسبة اكتشاف لعظام حيوان في موقع واحد في الشرق القديم، حيث بلغت نسبة العظام في الموقع 69% من مجموع العظام من مختلف الطبقات، وتشير هذه النسبة إلى أن لحمه يكوّن الجزء الأكبر من اللحوم المستهلكة لإنسان هذا المستوطن. للمزيد من المعلومات حول حيوانات أم الدباغية ينظر:
1- بوكوني، ساندر، البيئة الحيوانية لموقع أم الدباغية، تعريب: ميسون حبيب حسو، مجلة سومر، المجلد 30، بغداد، 1974، ص 335-338.
[12] -Diana K, Umm Dabbaghiyah، Fourth Preliminary 1974، IRAQ،Vol. XXXVII،1975،Pl.II،a-b.
[13]– صاحب، زهير، الفنون التشكيلية العراقية عصر ما قبل الكتابة، مطبعة دبي، بغداد، 2007، ص50.
[14]– إبراهيم، نعمان جمعة، تقديس الحيوانات في بلاد الرافدين، في ضوء المشاهد الفنية من الألف التاسع حتى نهاية الألف الثالث ق.م، أطروحة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب بجامعة صلاح الدين، أربيل، 2009، ص 25.
[15]– Gorden V، New Light on the Most Ancient East، London، 1935، fig.9.
[16]– البرواري، حسن أحمد قاسم، رموز الآلهة في منحوتات منطقة بادينان- دراسة حضارية، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى مجلس كلية الآداب – قسم الآثار بجامعة صلاح الدين، 2002، ص89.
[17]– باقر، طه وسفر، فؤاد، المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة، الرحلة الثالثة، مديرية الفنون والثقافة الشعبية، بغداد، 1965، ص 45.
[18] – Lioyd S، F S A، Gunduk forward، Sumer،Baghdad، 1948، vol.4، p.43.
[19]– الأمين، محمود، استكشافات أثرية جديدة في شمال العراق، مجلة سومر، عدد 4 ـ الجزء الثاني، بغداد، 1948، ص207، شكل رقم 14.
[20] – إبراهيم، نعمان جمعة، تقديس الحيوانات، المصدر السابق، ص 25 وما بعدها.
[21] – Mallowan M and Rose J، Excavation At Tell Arpachiyah 1933، IRAQ، Vol. II، 1935، p. 164، fig.77، No.9.
[22] – Merpert N and Manchaev M، Yarim Tepe I and Yarim Tepe II in Northern Iraq، IRAQ، Vol.LXIX،1987، fig.21، N.4.
[23] – Langdon S، in the Mythology of all Races، I، New York، 1964، p.90.
[24]– إبراهيم، نعمان جمعة، تقديس الحيوانات، المصدر السابق، ص 37.
[25] – Braidwood R and How B، Prehistory Investigation in Iraqi Kurdistan،Chicago، 1960، p.129.
[26]– Ibid، p.28.
[27]– Abu Al-Soof ، B، Excavation at Tell Qalinj Agha- Erbil، Sumer، Vol. 25،Baghdad، 1969، p.9، Pl.XIII.
[28]– Tobler A، Excavation at Tepe Gawra، IRAQ، Vol.101، 1950، p.179، fig.62.
[29]– لابات، رينيه، الطب البابلي والآشوري، مجلة سومر، مجلد 26، بغداد،1970، ص44.
[30]– Solecki R، Zawy Chemi Shanider A post – Pleistocene Village in Northern Iraq، 1964، p.405.
[31]– الجادر، وليد، الإنسان البدائي، مجلة الأكاديمي، العدد الأول، جامعة بغداد، 1971، ص23.
[32]– Frankfort H, Cylinder Seal، London، 1939، Pl.XI.m.
[33]– إبراهيم، نعمان، جمعة، تقديس الحيوانات، المصدر السابق، ص 44.
[34]– صاحب، زهير وآخرون، دراسات في الفن والمجتمع، دار مجدلاوي، عمّان، 2006، ص28.
[35]– سيرنج، فيليب، الرموز في الفن -الأديان-الحياة، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، 1992، ص38.
المصادر والمراجع: