أ. د. قصي منصور التـُركي
أ. د. قصي منصور التُركي([1])
أ.م د. عبد الله خورشيد عبدالقادر([2])
الملخص:
إن الإهمال والتجاوزات على الأبنية التراثية العمرانية العراقية دفعت مجلس الآثار العالمي إلى إدراج المواقع الأثرية في العراق ضمن البلدان المعرضة لخطر الإزالة، لذا فقد توجب على المختصين بالآثار والتراث التنبيه إلى مثل هذه التجاوزات، فكان هذا البحث مدعاة لذلك.
ويهدف البحث على الصعيد المحلي إلى حثّ المخططين العمرانيين والحضريين والباحثين على بلورة خطط الحفاظ المبنية على مبادئ استدامة العمران وعدم السماح للزحف العمراني الحديث للمساس بالشواخص التاريخية من مواقع أثرية وأبنية أثرية وتراثية، بما يضمن التواصل الحضاري لشعب ضربت جذوره أعماق التاريخ.
وسوف يركزّ بحثنا على أبرز التجاوزات وتحدّيات الحفاظ العمراني لشواخص العراق التاريخية، المتمثلة بسيناريو استهداف الذاكرة الحضارية العراقية، والخطوات الترقيعيّة في التعامل مع هذا الملف الخطير من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة، وضعف الوعي الشعبي بأهمية الشواخص التاريخية.
Aspects of transgressions on the urban heritage of the Iraq’s archaeological features – a field study
Abstract:
The neglect and abuse of the Iraqi heritage urban buildings prompted the World Antiquities Council to list the archaeological sites in Iraq among the countries at risk of removal. Therefore, the specialists in archaeology and heritage had to warn about such abuses, and this research was a cause for that.
The research aims at the local level to urge urban planners, urbanists and researchers to crystallize conservation plans based on the principles of sustainable urbanization and not allow modern urban sprawl to prejudice historical features from archaeological sites and archaeological and heritage buildings, in a manner that guarantees civilized communication for a people whose roots are deep in history.
Our research will focus on the most prominent violations and challenges of urban preservation of the historical features of Iraq, represented by the scenario of targeting the Iraqi civilized memory, the patchwork steps in dealing with this dangerous file by successive Iraqi governments, and the weak popular awareness of the importance of historical markers.
المقدمة:
لقد جاء في تقرير المجلس منذ سنة 2006م أن “هناك عمليات نهب واسعة واحتلال عسكري ونيران مدفعية وتخريب متعمّد وأعمال عنف وتدمير فيما يبدو أنها عملية تدمير للحضارة الإنسانية”، وهي المرة الأولى في التاريخ التي يتجاوز فيها تعريف “خطورة الإزالة” ليشمل بلدًا كاملًا كالعراق، وفي ظل استمرار تلك المظاهر حتى اللحظة بأجندات وتخطيط ومشاركة من بعض الجهات الخارجية والداخلية، مع الفشل والتواطؤ للحكومة العراقية ذات المصالح الشخصية والحزبية الضيقة التي تقود دفة الأمور نحو مزيد من التراجع في أداء العراق لدوره في البناء الحضاري والإنساني.
ويركزّ بحثنا على أبرز تحدّيات الحفاظ العمراني لشواخص العراق التاريخية، المتمثلة بسيناريو استهداف الذاكرة الحضارية العراقية، والخطوات الترقيعيّة في التعامل مع هذا الملف الخطير من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة، وضعف الوعي الشعبي بأهمية الشواخص التاريخية، ويهدف البحث على الصعيد المحلي إلى حثّ المخططين العمرانيين والحضريين والباحثين على بلورة خطط الحفاظ المبنية على مبادئ استدامة العمران وعدم السماح للزحف العمراني الحديث للمساس بالشواخص التاريخية من مواقع أثرية وأبنية أثرية وتراثية، بما يضمن التواصل الحضاري لشعب ضربت جذوره أعماق التاريخ، وقدّمت أرضه أوضح الصور عن ولادة الحضارات الإنسانية وتعاقبها.
إن الغاية من البحث هي الدعوة إلى ضرورة التحرك الدولي الفاعل بتأمين الموارد المالية والبشرية اللازمة، وتشكيل مجلس وطني عراقي وعربي أعلى للحفاظ على التراث العمراني، وتفعيل القوانين والتشريعات، ونشر الوعي الجماهيري لوقف عمليات التخريب والتهديم والزحف العمراني الحديث، فيما يتطلب الأمر استثمار الخبرات العالمية لإحياء المواقع الأثرية العراقية وتأهيلها ثقافيًا.
أولًا- الضرورة الحضارية للحفاظ العمراني المستدام:
شهدت أرض الرافدين (العراق) في القرن الماضي وبداية القرن الحالي العديد من الحروب المدمرة التي أسهمت في إهمال التراث العمراني والإنساني وتدميره، فضلًا عن تأثير الزمن والتآكل الطبيعي والكوارث الطبيعية وأثر التكنولوجيا في تسهيل التطور العمراني السريع واختفاء العديد من المباني والمناطق الأثرية لإفساح المجال للطرق والمشروعات العامة والصناعية الكبيرة.
وباختفاء العديد من المباني الأثرية في أثناء الحروب والنزاعات الطائفية والمظاهر المسلحة، بات من الضروري أن يدرك الإنسان العراقي أهمية العمل للحفاظ على ما بقي من تراث عمراني لأن الحفاظ على التراث العمراني مسؤولية تاريخية إنسانية تسهم في الإبقاء على معالم الماضي كي يراها أبناء المستقبل، لاسيما أن التراث العمراني يعكس الهوية الحضارية للإنسان، لذا فإن ضرورة الاهتمام بالتراث العمراني والحفاظ عليه لم تعد تقتصر على الاهتمام المحلى أو القومي، بل غدت رسالة إنسانية تتعاون الشعوب في أدائها، وتتبادل الخبرات بشأنها تحت أشراف منظمات دولية متخصصة أو هيئات إقليمية أو علمية.
إن الاهتمام بالتراث يتجاوز المعنى الخاص إلى ما هو عام، أي ما هو مشترك بين المجتمعات البشرية كلها، ولعله يدل على ما تركه الأسلاف من أفكار وعادات وتقاليد ومعارف وحرف ومبانٍ لأحفادهم، فكانت هذه العناصر المعنوية والمادية تمثل قاسما مشتركا بينهم([3]).
1- أهمية الحفاظ على التراث العمراني والقيمة الحضارة للأبنية الآثارية والتراثية:
على الرغم من تعدد المصطلحات المتعلقة في معنى كلمة (التراث) إلا أن كلمة تراث في اللغات الأوربية عموما (الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية) تتحدر من اللفظة اللاتينية “Patrimonium” وتعني فيما تعني “مُلك العائلة وإرثها” سواء كان ذلك في المعنى المباشر أم المعنى المجازي (Dictionnaire de Sociologie Patrimoine)، ويقينًا فإن العالم اليوم أصبح في ظل العولمة عائلة واحدة؛ لذا فعلى العائلة أن تهتم بإرثها وتراثها، كما أن التراث العمراني يمثل أهم المصادر المادية للأنشطة الإنسانية الاجتماعية والثقافية، فهو يعطينا القدرة على استرجاع المفقود من المعلومات عن أناس عاشوا في عهود سابقة من خلال تتبع الحياة الإنسانية والاجتماعية وتطوراتها، بيد أن قدرة الاسترجاع هذه تجابهها تغيرات سلبية حدثت وتحدث في المجتمع، من أهمها، الانطلاق السريع غير المتقن نحو تحقيق متطلبات الحداثة والرغبة في سرعة التغيير على حساب المباني التراثية مما أفقدها كثيرًا من ارتباطاتها وشخصياتها الحضارية، مما يستوجب ذلك الحفاظ على البيئة بكل مشتملاتها الطبيعية التراثية والمشيدة حديثا([4]).
لقد حددت منظمة (ICOMOS) في الميثاق الذي عرف بميثاق “بورّا” (Burra Charter 1981) الخاص بالحفاظ على الأماكن والمباني ذات القيمة الحضارية، عدة معايير تجعل من الأماكن والمباني ذات قيمة حضارية، من بينها([5]):
إن ادراك المعايير أعلاه وفهمها يتطلب وعيًا ومعرفة بأهمية التراث العمراني، وأي خلل في هذين العاملين يؤدي إلى فقدان معظم الخبرات المتراكمة في مجال العمارة والعمران، ويُعد النمو السكاني وما يواكبه من تطور وتنمية من أهم العوامل الضاغطة على النسيج العمراني (بنوعيه التاريخي والحديث) لمشاركته في التغيير السريع لشخصية النسيج العمراني بما لا يتيح المجال أمام المجتمع للتفكير بما يحدث، وتقييم وضع المدينة القديمة من منظور تاريخي وثقافي وفق العوامل البيئية والزمنية المترابطة والمتداخلة([6])، ولدينا في التداخل العمراني بين النسيج العمراني التراثي والبناء الحديث ما يوضح هذه الصورة من التجاوز على البناء العمراني التراثي بشكل واضح، ففي إحدى أهم العواصم الآشورية التي تسمى بمدينة “دور – شروكين” (خُرسباد حديثًا) والتي يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد([7])، حيث نجد أن بقايا أحد أهم أبنية المدينة وهو معبدها المعروف بمعبد الآلهة السبعة “سيبتي” قد اقتطع من مبناه جزء مهم، وأقيمت عليه طريق معبدة داخل سور المدينة، وبمحاذاة المعبد، فضلًا عن مبانٍ كونكريتية حديثة على سور المدينة الأثرية (ينظر صورة رقم -1-).
(صورة رقم -1-) السور الخارجي لمدينة خُرسباد والطريق المعبّدة الرئيسة داخل المدينة والأبنية العمرانية الحديثة بنيت في المدينة الأثرية، بعدسة الباحث.
ثانيا- المشاكل الرئيسة التي تواجه عملية الحفاظ العمراني في العراق:
يواجه الحفاظ العمراني في العراق مجموعة من المشاكل يمكن إيعاز أسبابها إلى جوانب اجتماعية واقتصادية، فضلًا عن غياب الوعي بأهمية التراث العمراني، وعدم وجود التمويل اللازم، وضعف الحماية القانونية، وانعدام الآليات الملائمة لمشاركة المجتمع في عملية الحفاظ، فضلًا عن هدم العديد من الأبنية التراثية لأغراض التوسع العمراني، مما يؤدي إلى تفكك النسيج الحضري الممثل الأبرز لثقافة العراق وحضارتها، كما نشير بهذا الصدد إلى انعدام المسوحات والإحصائيات عن المباني التراثية أو ربما قِلّتها في العديد من المحافظات، لاسيما الوسطى والجنوبية، وترميمها غير المستند إلى القواعد الأساسية العلمية، وكل ذلك جاء نتيجة لتراكم عدة مشاكل من أهمها الحروب والصراعات حول السلطة وتغييب الوعي الثقافي على حساب تعضيد السلطة وهيمنتها عسكريا وأمنيا على المنطقة، مع تغليب الدور التنموي في مجالات الطاقة والتصنيع العسكري على حساب الثقافة والتنمية المحلية والاهتمام بالسياحة والتراث العمراني، مع توفر الإمكانيات والثروات الطبيعية وعوائدها، لاسيما النفط والغاز في العراق، بيد أن هذا الأمر لا ينطبق على السياسة الثقافية السياحية في عدد من البلدان العربية التي تتمتع بامتيازات الموارد نفسها، ومنها على سبيل المثال المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج التي وازنت باهتمام بين التنمية البشرية وحفظ الأمن وتقوية السلطة مع الاهتمام بالتراث العمراني والثقافي باعتباره من بين الركائز المهمة لبلدانها([8]).
ورغم وفرة الموارد ومقومات النهوض في العراق، إلا أن المتتبع لموضوع الاهتمام بالتراث والأبنية العمرانية خصوصا يجد أن الأبنية ومواقعها الأثرية قد تعرضت إلى نوعين من الأخطار هما:
وهي الأخطار التي لحقت بالمواقع الأثرية نتيجة العوامل الطبيعية من مناخ وتضاريس وعوامل جيولوجية، تخص أرض العراق على اختلاف أقسامها لاسيما الجنوبية منها، حيث تتواجد أقدم مدن العالم المدنية في منطقة السهل الرسوبي التي تعرضت منذ أزمنة قديمة إلى الدمار الطبيعي.
يسرد لنا أستاذ الآشوريات والمنقب الامريكي المعروف “إدوارد كييرا” (Edward Chiera) (ت 1933م) وصفا للدمار الطبيعي الذي يعصف بمدن العراق الأثرية ومبانيها، في رسالة أرسلها إلى زوجته عند شروعه في التنقيب بمدينة “كيش” الأثرية في أوائل القرن الماضي، وهي تعد أقدم مدن بلاد الرافدين، إذ يقول: “ليس في هذه المدينة عمود قائم أو قوس واقف ليثبت استدامة عمل الإنسان، فكل شيء استحال إلى تراب. برج المعبد نفسه الذي كان أروع تلك الأبنية القديمة كلها، قد فقد شكله الأصلي كليا. أين إذن طبقاته السبع؟ وأين طريق السلم المؤدية إلى القمة؟ وأين المعبد الذي يتوجه؟ ولكننا نشاهد فقط تلًا من التراب، وهو كل ما بقي من آجره الذي كان يعد بالملايين. وعلى قمة هذا التل بعض آثار الجدران ولكن لا شكل لها، وقد أكمل الزمان والإهمال عملهما في أفنائه”([9]).
لقد لعب عامل الزمن والإهمال وطبيعة المواد الأولية للبناء مع طبيعة أرض العراق، الأثر البالغ في فناء أغلب أبنية مدن بلاد الرافدين المبنية أساسا من الطين، خاصة في القسم الجنوبي من العراق.
إن أغلب المواقع الأثرية الطينية لا تحتوي على بقايا الأبنية السكنية خاصة في وسط وجنوب العراق، وإن وجدت فحالتها الإنشائية سيئة مقارنة مع بقايا الأبنية الآجرية في شمال العراق، فحالتها أفضل، لكنها عند غياب وسائل الحماية والوقاية من العوامل الطبيعية (الأملاح، والمياه، والفيضانات، والسيول، والأمطار) ستتهرأ بمرور الزمن وتفقد قوة الربط بين القطع الآجرية، وقد تجرفها سيول الأمطار والفيضانات، كما هو الحال في موقع عقرقوف (30 كلم غرب بغداد)، وبالذات في المنطقة المحيطة بالزقورة، إذ أزالت الفيضانات من الوجود المباني الدينية المشيدة بالآجر، وإن سلمت المباني من الكوارث الطبيعية، فإن مجرد وجودها مدفونة داخل تربة العراق الرطبة كفيل بهلاكها، وينطبق ذلك على أغلب مدن بلاد الرافدين، ناهيك عن الإهمال والتقصير من قبل إدارة الدولة والمؤسسات المتخصصة في الحفاظ العمراني والتراثي، على العكس من مدن بلاد النيل، حيث إن الأحوال المناخية في مصر تختلف تماما عنها في العراق، فالمناخ الجاف وشحة المطر وكون الرمال عديمة الامتصاص والاحتفاظ بالرطوبة، كفيلة بأن تحفظ الآثار المصرية من أبنية وما بداخلها، فقد وجدت بعض قطع البردي مطمورة في الرمال وهي بحالة جيدة على الرغم من مرور آلاف السنين على كتابتها([10])، كما أن الحكومة المصرية الحديثة تدرك جيدا كما يدرك الشعب المصري أن المواقع الأثرية والتراثية تعتبر وسيلة جذب للسياح، فالحفاظ عليها يعد رافدًا لدخول الأموال من قطاع السياحة على المستوى الوطني والشعبي.
تتلخص الأخطار حديثة المنشأ بجملة من الاحداث والشواهد التي يمكن ملاحظتها على أرض الواقع، إذ هي أخطار آنية حديثة معاصرة تلحق الضرر بالتراث الثقافي، حيث تعرضت المدن والمواقع الأثرية والمباني التراثية العراقية وما تحويه من عناصر التراث العمراني التي لا تقدر بثمن إلى درجة من الدمار لم يتعرض لها أي تراث ثقافي لبلد آخر، والتساؤل الذي يجب طرحه عن الأخطار الحديثة التي تعرضت لها معالم التراث العمراني، لا بد أن يتركز على مسألة مركزية ذات طبيعة تاريخية لهذه الأخطار.
يمكن القول إن الخطر الحقيقي الحديث على التراث الثقافي للعراق قد بدأ مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في ظل غياب دولة وطنية قوية، هرِّبت خلال حكمها آلاف من القطع الأثرية بصورة غير شرعية، باتجاه أوروبا وأميركا وآسيا، ثم تباطأ مستوى الضياع الثقافي هذا مع نشأة الدولة العراقية وتأسيسها بعد الحرب العالمية الأولى، ثم إصدار القوانين والتشريعات التي بموجبها يُحفَظ التراث الثقافي للبلاد، والتي حرَّمت التجاوز والتنقيبات غير الأصولية للمواقع الأثرية، كما عملت على منع الاتجار بالآثار مع بقاع العالم المختلفة، ومنها صدور قانون رقم 975 لسنة 1974 المعدل على أول قانون للآثار العراقية والمرقم 59 لسنة 1936 ([11]).
أما في فترة الحرب العراقية الإيرانية، فقد تعرض التراث الثقافي للعراق مرة أخرى للتجاوز والنهب والخراب – خصوصا تلك المواقع الواقعة قرب الحدود مع إيران- لأعمال تدمير بفعل الحرب، علاوة على استخدام عدد من المواقع داخل العراق مقرات قيادة عسكرية، وهو الأمر الذي أدى إلى إلحاق مزيد من الأذى والدمار، مثل موقع “الدير” في بدرة، بينما استُخدمت مواقع أخرى نقاط مراقبة بسبب ارتفاعها مثل موقع “دريهم” في الديوانية ومواقع غيرها تنتشر في المنطقة بين “الشوملي والنعمانية”، كما تعرضت مواقع أثرية أخرى للتدمير بسبب إنشاء قواعد جوية عليها مثل موقع “التليل” الذي استخدمته القوات الجوية البريطانية سابقا قاعدة جوية خلال حقبة الانتداب، واستخدم الموقع نفسه قاعدة جوية في حرب الخليج الثانية عام 1991؛ ونتيجة لضعف الحكومة المركزية بتأثير الحصار الاقتصادي على العراق، بدأت أعمال حفر غير قانونية أدت إلى إلحاق أضرار بليغة بمواقع أثرية في الجنوب العراقي، من بينها مواقع في مدن الديوانية والسماوة وواسط والناصرية، نُهبت على إثرها مئات الآلاف من القطع الأثرية من مواقع متفرقة. وببساطة فمن المعروف أن الجهات القائمة على الاتجار بالآثار المسروقة في أوروبا والولايات المتحدة هي من تدعم أعمال النهب هذه في العصر الحديث([12]).
ومع جملة الأخطار هذه المتعلقة بالوضع السياسي للعراق في أواخر القرن الماضي، تبرز أخطار أخرى من نوع آخر إلا أنها أسهمت إسهامًا فاعلًا في تدمير التراث العراقي لاسيما العمراني الديني، حيث تعرض للتدمير جرّاء الأعمال الإرهابية والإجرامية، كرد فعل لأعمال القمع والفوضى الذي أحدثه الاحتلال وشيوع ظواهر التطرف الديني الذي بثه المحتل في صفوف المجتمع العراقي، والذي سمح لعناصر مسلحة بالهجوم على بعض الصروح الأثرية لقبور ومزارات دينية مثل “الخلاني والكيلاني” في بغداد و”القبة العسكرية الذهبية” في سامراء “والخضر” في كبيسة و”يحيى بن القاسم” و”عون الدين” في الموصل والعديد من الأضرحة الموجودة في العراق، ويكفي دلالة أن نشير إلى الأذى والدمار الذي تعرضت له مئذنة عانة من قبل متطرفين (ينظر صورة رقم -2-)، إذ تعد هذه المئذنة من أغرب المآذن في العراق، مثمّنة الشكل، مبنية من كسر الجص والحجر، يرجح متخصصو الآثار أن بناءها كان في أواخر العصر العباسي الأول والذي انتهى بمقتل الخليفة المتوكل العباسي سنة 247هـ؛ وذلك بالعودة إلى طراز البناء والنقوش والهيكلة والآجر المستخدم في البناء([13])، بيد أنها اليوم مجرد كومة من الأحجار المتناثرة.
(صورة رقم -2-)”مئذنة عنة “أواخر العصر العباسي الأول بحدود سنة 247هـ، حيث تعرضت للتدمير.
ونتيجة لهذه المخاطر والإهمال المستمر وما تركه الاحتلال من دمار في المواقع الأثرية العراقية، يتعرض التراث الآثاري العراقي لمخاطر جمة، حيث نرى أخطارًا كبيرة محدقة بمواقع عراقية رئيسة مثل أور والوركاء ونفر وبابل والعديد من الخانات (الربع والنص والعطيشي والمصلى والحمد) والكفل وطيسفون وعقرقوف وآشور ونمرود ونينوى والحضر وقلعة كركوك ومدينة البصرة القديمة وواسط العاصمة الإسلامية وباقي العواصم الإسلامية في الكوفة وسامراء، وتعد المدينة الإسلامية الأخيرة التي تحوي جامع الملوية والذي يعد بين أكبر المساجد في العالم الاسلامي والذي بناه هو الخليفة جعفر المتوكل ابن محمد المعتصم بين سنتي 234-237هـ، قبل ألف ومئتي عام تقريبا([14])،حيث تعرضت المئذنة إلى تفجير إجرامي في قمتها بعد أن كانت قوات أمريكية قد اتخذتها مكانا للقنص، حيث فُجِّر جزء كبير من قمة البناء الأثري الشهير الذي يبلغ ارتفاعه الكلي 52م وعدد درجاته 399 درجة (ينظر صورة رقم -3-).
(صورة رقم -3-) منظر عام لمئذنة سامراء المعروفة بالملوية مع صورة للجزء المهدم بسبب التفجير الذي طال قمة المئذنة.
ثالثا- إهمال المباني العمرانية التراثية والتوسع على حساب الأبنية الأثرية:
لقد شهد العراق حركة سريعة في التوسع العمراني في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وفي السنوات الأخيرة من العقد الحالي؛ ونتيجة لعدم وجود خطة للحفاظ على المناطق التراثية وحمايتها من التدهور والزحف العمراني الحديث، فقد تعرضت هذه المناطق إلى أضرار بالغة من تدهور في مبانيها التراثية المهمة، فضلًا عن تجاوز الأفراد على المواقع الأثرية والتراثية وإنشاء أبنية حديثة، يمكن تناولها على النحو الآتي:
يحتوي العراق على آلاف المباني التراثية بل هناك شوارع تراثية بكاملها، ففي بغداد على سبيل المثال أصبحت الشوارع والأحياء والبيوت التراثية متناثرة البقايا (ينظر صورة رقم -5-)، وغير مرتبطة ببعضها بعضًا، وبالنسيج العمراني القديم الذي كان يمثل قلب المدينة العتيقة ومركزها التجاري والسكني، وبالتالي دُمِّرت أهم معالم المدينة القديمة، وأصابها الخراب بعد إهمال لعقود من الزمن، ففقدت أبنيتها بعضا من قيمتها الحضارية والتراثية العمرانية، كما أدت عناصر حداثوية في البنية الاجتماعية للعادات والتقاليد إلى غياب عادات مرتبطة بالتراث العمراني ومن بينها الحمامات، فعلى سبيل المثال كانت في بغداد لوحدها خلال عصر الخليفة المأمون حسب ما نقله ابن خلدون (65000) حمام، بينما تعد اليوم على الأصابع، ونص “ابن خلدون” في مقدمته على الآتي: “ذكر الخطيب في تاريخه أن الحمامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستين ألف حمام”([15]). وبالرجوع الى ما قاله الخطيب البغدادي في كتابه “تاريخ بغداد” أن عدد الحمامات كانت في ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام”.([16]) كما نقل أقوالًا أخرى في عدد حمامات بغداد، ونصُّ كلامه “قال جدي: فأما المساجد، فلا أذكر ما قيل فيها كثرة، وأما الحمامات فكانت بضعة عشر ألف حمام”.([17])
(صورة رقم – 4 -) زقاق في أحد أحياء مدينة بغداد العتيقة وشرفة بناء آيلة للسقوط تطل على شارع الرشيد ببغداد القديمة ناحية الرصافة (عدسة الباحث)
لقد ظهرت تجاوزات على المباني والمواقع الأثرية، مما شوّه صورة المدينة الأثرية، ومنع فرصة العمل على استظهار المباني العمرانية لمدن كانت عواصم للإمبراطوريات التي حكمت بلاد الرافدين والشرق الأدنى القديم برمته، ففي بعض المدن الأثرية المهمة في التاريخ الآشوري الحديث، ومن بينها آخر العواصم الآشورية “دور – شروكين” حدث التجاوز على موقعها الأثري بحيث يشاهد تشييد بيت من الكونكريت على أرضية قصر الملك الآشوري سرجون نفسه، وربما يكون البيت قد اكتمل بناؤه حين ينشر البحث. (انظر صورة البناء رقم -5-).
(صورة رقم -5-) صورة تجاوز لبناء حجري وكونكريتي حديث قيد الإنشاء على قمة تل قصر الملك شروكين، بعدسة الباحث.
وتجدر الإشارة إلى أن الذي يقرأ ويشاهد مخططات قصر الملك العظيم “شروكين” (سرجون الآشوري) في أثناء نشر نتائج التنقيبات الخاصة عن القصر وبعدها([18])، سيجد نفسه غير مصدق لتلك المعلومات إذا ما وقف على أطلال القصر المذكور اليوم ومكانه؛ إذ يجد تلًّا متواضعًا من التراب، على سفحه وبالقرب من بقايا أحجار سوره أقام السكان المحليون ملعبًا لكرة القدم فضلًا عن البناء السكني السالف الذكر، (انظر الصورة المرفقة رقم -6-).
(صورة رقم -6-) التل الذي من المفترض أن يقع تحت أكوام اتربته قصر الملك شروكين، بعدسة الباحث
واستكمالا للتجاوز على الشواخص والأبنية الأثرية للمدينة نفسها التي اتخذناها نموذجًا للدراسة، نجد أن أرض المدينة قد حرثت وهي مهيأة للزراعة التي تعتمد على الأمطار الديمية، والكارثة أن هذا الحرث قد تم داخل مدينة “شروكين” أو “خرسباد” كما هو شائع (انظر الصورة المرفقة رقم -7-).
(صورة رقم -7-) منظر عام للأرض المحروثة والمهيأة للزراعة داخل مدينة خورسباد الأثرية، بعدسة الباحث.
وعلى الرغم من المظاهر السلبية التي ذكرناها آنفا إلا أنها لا تزال الفرصة مواتية من أجل إنقاذ ما تبقى من معالم التراث العمراني في المدن الأثرية القديمة والاسلامية، وذلك من خلال:
(صورة رقم -8-) أعمال صيانة احد جدران الأبنية العمرانية في مدينة نمرود، عدسة الباحث
(صورة رقم -9-)مدخل مدينة آشور ويظهر فيه إعادة بناء قوس مدخل المدينة بما ينسجم مع الطابع الأثري، بعدسة الباحث
إن التراث العمراني للمدن والأقضية بدأ يتلاشى بسبب السياسة العشوائية في البناء؛ لذا فإن الدعوة ملحة إلى كافة المؤسسات الرسمية والأهلية المهتمة بالحفاظ على التراث الثقافي وصناع القرار لتبادل الأفكار والاقتراحات، وذلك سعيًا للحفاظ على التراث العمراني.
تتطلب الحاجة الزراعية في العراق إلى القيام بمشاريع إروائية مختلفة من ضمنها تشييد السدود لرفع منسوب النهر وتوزيعه على مساحات أكبر من الأراضي الزراعية عبر قنوات إروائية، ومن سوء حظ المواقع الأثرية في أغلب مدن العراق ونواحيه وقصباته الزراعية أنها تقع ضمن الأراضي الزراعية المشمولة بالمشروع الإروائي، وقد أقامت الحكومة في العراق الحديث على مدى القرن الماضي أكثر من مشروع لبناء سدود في مناطق الوسط والجنوب وأعالي الفرات، من أهمها في الربع الأخير من القرن الماضي، سدّي “حمرين” في ديالى بوسط العراق و”حديثة” في الأنبار بأعالي الفرات، وقد أدت إلى غمر كافة المواقع الأثرية المشمولة ضمن منطقة الإرواء في منطقة حوض سد حمرين، التي بلغت حوالي (70) موقعًا”([20]) وفي “حديثة” (85) موقعًا أثريًا وعشرات القرى. وقد عمدت الحكومة العراقية في العقود الأخيرة من القرن المنصرم إلى إنشاء مشاريع زراعية كتلك التي قامت بها شركة “سابانيوس” اليونانية مما أضر بالتراث الآثاري، وعرف هذا المشروع ” بمشروع النهر الثالث” الذي أنشيء في الأساس لزيادة الإنتاج الزراعي، وهو المشروع الذي ألحق أضرارًا ببعض المواقع السومرية لإنشائه في سهل نهر دجلة الجاف العتيق([21]).
أما في هذا العام وفي أحدث أعمال المشاريع الإروائية الحكومية تقوم شركة حكومية بتنفيذ مشروع إروائي على موقع أثري يدعى “تل الصخيري”، الواقع في ناحية الكرمة التابعة لقضاء الفلوجة بمحافظة الأنبار، يعود تاريخه كما هو متوقع إلى العصر الآشوري الحديث والفرثي وربما الإسلامي، ويمكن مشاهدة نسبة الدمار الحاصل جراء رفع التراب رفعًا عشوائيًّا بمساحة تقدر بحوالي 200 متر مربع من سطح الموقع الأثري دون إجراء مسوحات أو كشوف أثرية، كما أفاد بذلك مدير مفتشية آثار الأنبار الذي زودنا بهذه الصورة الحديثة لعمليات رفع الاتربة (ينظر صورة رقم -11-).
(صورة رقم -10-)تل الصخيري الأثري قبل عمليات التجريف وحمل الأتربة دون أعمال المسح والتنقيب وبعدها، عدسة مفتشية آثار الأنبار.
الخاتمة والاستنتاجات:
تستند الاستراتيجية التي يقدمها البحث للحفاظ على المباني الأثرية والعمرانية من الزحف العمراني الحديث والأخطار الأخرى، إلى المقومات والعناصر الطبيعية والبشرية التي يتمتع بها العراق كالإرث الحضاري وامتداده في عمق التاريخ البشري ممثلا بالموروث المعرفي والمعماري والتخطيطي وقيام أقدم الحضارات في العالم، تلك التي تحكي قصة الإنجاز الحضاري العراقي في مختلف بيئات البلاد في الصحراء كما في الجبال والسهول والأهوار فضلا عن السياحة الدينية، خاصة أن العراق تشرفت بدعوات الرسل والأنبياء ومرور الصحابة الأوفياء والأئمة الأطهار والخلفاء الأخيار، وقلّما يمتلك بلد آخر نظيرا له، ولتنفيذ هذه الاستراتيجية، نقترح تبني الخطوات الآتية ضمن خطة على المدى القصير والمتوسط قد تمتد إلى 15 سنة قادمة لتتضمن ما يأتي:
[1])) باحث في آثار وحضارة بلاد الرافدين والخليج العربي/ استراليا.
[2])) جامعة صلاح الدين – أربيل / العراق.
[3] – الـعـربـي، البـشـيـر، “دور التراث في التنمية البشرية المستديمة”، كتاب أعمال الندوة الدولية: دور التـراث في استدامة التنمـية، تونس- صفاقس في 23- 24 نوفمبر2007، ص11.
[4] – Boyong C، A study of Conservation of Historic Building and Old Areas، M. of Urban Design, University of Manchester, 1993. p.13.
[5]– مهدي، محمد، التكامل الحضري في المراكز التاريخية، رسالة ماجستير غير منشورة، مقدمة إلى قسم الهندسة المعمارية – الجامعة التكنلوجية ببغداد، 2008، ص7.
[6]– عماريـن، إيهاب هاني، ” المحافظة على النسيج العمراني التاريخي في الحي المسيحي-مدينة الكرك القديمة”، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية، عمان، 1993.
[7] – Hayim Tadmor, The Campaigns of Sargon II of Assyria: A chronological Historical Study, Journal Cuneiform studies, 12, 1958, p.94.
[8]– الزهراني، عبد الناصر بن عبد الرحمن “إدارة موارد التراث العمراني”، مركز البحوث في كلية السياحة والآثار جامعة الملك سعود، الرياض 2009م، ص 12- 14.
[9]– كييرا، إدوارد، كتبوا على الطين، ترجمة وتعليق محمود حسين الأمين، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بغداد، 1962، ص 9-10.
[10] – كييرا إدوارد، مصدر سابق، ص 23.
[11]– نصوص القوانين والتشريعات العراقية منذ سنة 1960 إلى 2011، الوقائع العراقية الرسمية، بغداد، 2011.
[12] – Raymond W Baker and Others, Cultural Cleansing in Iraq “the Current Status of the Archaeological Heritage of Iraq”, Abbas Al- Hussainy, Pluto press, N.Y, 2010, pp.82-83.
[13] – العزاوي، عبدالستار، مئذنة عنة الأثرية تركيبتها وصيانتها، بغداد، 1992م.
[14] – الطبري، تاريخ الأمم والملوك، (ت 310هـ)، طبعة دار سويدان ـ بيروت، وطبعة دار المعارف ـ الطبعة الرابعة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (ب.ت)، ص271. كذلك: الحسني، عبد الرزاق، العراق قديمًا وحديثا، ط3، صيدا، مطبعة العرفان، 1985م، ص7.
[15]– ابن خلدون، المقدمة، دار صادر، بيروت، ط2، 2006، ص 256.
[16] – ينظر: الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي (ت 463هـ): تاريخ بغداد، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1422هـ – 2002م، ج1، ص439.
[17] – المصدر نفسه، ص440
[18] – قصي منصور عبدالكريم، نص مسماري على طابوقة بناء من مدينة خُرسباد الأثرية، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، جامعة بابل، العدد18 كانون أول 2014، ص 205-212.
[19] – Mark Altaweel and Muzahim Mahmoud Hussein, Nimrud: The Queens’ Tombs by Oriental Institute of the University of Chicago, Hardback, 2016,p.3.
[20] – أبو الصوف، بهنام، الجغرافية التاريخية لحوض سد حمرين، مجلة سومر، مجلد 35، لسنة 1979، ص 416.
[21]– Raymond W Baker and Others, op.cit, pp.85-86.
ثبت المصادر والمراجع
أولا- المصادر والمراجع العربية:
ثانيا- المصادر والمراجع الإنجليزية: