د. إسكندر محمد النيسي
د. إسكندر محمد النيسي([1])
د. هادي فضل العولقي([2])
ملخص البحث:
سيتناول البحث التعريفات والنشأة التاريخية للاستشراق ومراحله المختلفة، وأيضًا تشخيص دور بعض الشخصيات من المستشرقين في مجالات عديدة، وتوجهات الغرب في تعميق حركة الاستشراق تجاه الشرق بمختلف الأهداف: الدينية – التجارية – السياسية- العلمية. كما رافق ذلك تأسيس بعض الجمعيات التي روجت للاستشراف وكيف وظفوا المستشرقين لخدمة الاستعمار، وأيضا سيتطرق البحث إلى دور المفكر العربي والناقد والمحلل الأكاديمي الفلسطيني الأصل (إدواردسعيد) الذي فضح وشخّص وحلل وانتقد مسار الاستشراق في كل توجهاته، وكيف استطاع إدوارد سعيد أن يفند طبيعة العلاقات بين الشرق والغرب وكيف عمل الغرب على مهاجمته بعد أن أصدر كتابه حول الاستشراق، وكشف الطريقة التي يتعامل بها الغرب مع الشرق بطريقة مذلة ومنقوصة من قبل المستشرقين الغربيين.
Abstract:
The research will cover definitions and historical origins of Orientalism and its various stages. He also diagnosed the role of some Orientalist figures in many fields، and the orientations of the West in deepening the Orientalist movement towards the East with various objectives. Religious، commercial، political and scientific.
It was also accompanied by the establishment of some associations that promoted foresight and how Orientalists employed Orientalism to serve colonialism. Edward Said was able to refute the nature of relations between East and West and how the West attacked him after he published his book on Orientalism، and revealed the way in which the West deals with the East in a humiliating and incomplete by Western Orientalists.
مقدمة البحث:
الاستشراق فكرة غربية انطلقت نحو الشرق منذ العصور الوسطى، وبالذات بعد الفتوحات الإسلامية وازدهار الثقافة العربية – الإسلامية، وظهور العلماء العرب والمسلمين وبروزهم في مختلف العلوم، في الوقت الذي كانت أوروبا غارقة في الحروب والصراع الديني والتخلف الثقافي والحضاري، وتزامنت مع إرسال الحملات الصليبية إلى منطقة الشرق الأوسط منبع الديانات السماوية، وكان ذلك تحت طابع ديني مدعوم من الكنيسة. ومن منذ تلك اللحظة وظفت حركة الاستشراق بالطابع الديني والفكري نحو الشرق لدراسة حضارته وأديانه وثقافته ولغته، وحتى اللهجات السائدة فيه، واستطاع المستشرقون الوصول إليها بهدف تشويه اللغة العربية وتسخير كل مقومات الشرق الحضارية والثقافية لخدمة الاستعمار والاستشراق من خلال المستشرقين الذين يحملون أفكار التعصب للغرب ونشر ثقافته المصطنعة من خليط من الثقافات، والمرتبطة بمزيج من ثقافة الديانتين اليهودية والنصرانية. فالمستشرقون تمحورت وركزت أكثر أعمالهم على تشويه معتقدات الشرق عمومًا والإسلام والعرب والمسلمين خصوصًا وثقافاتهم. وأكثر الدراسات التي قدمت من المستشرقين كانت في خدمة الدول الاستعمارية التي استعمرت الشرق منذ القرن السابع عشر حتى الحرب العالمية الثانية، ومنطقة الشرق الأوسط ظل فيها الاستعمار البريطاني والفرنسي حتى سبعينيات القرن الماضي، وغادر المنطقة بعد أن زرع استعمارًا جديدًا ومحتلًا مغتصبًا للأراضي العربية المقدسة، يتمثل باليهود الصهاينة منذ عام 1948م حتى يومنا هذا. فجاء المستعمر الجديد لمنطقة الشرق الأوسط بالقواعد العسكرية والأساطيل، وأصبح المتحكم بالقرار السياسي والاقتصادي للمنطقة دون منافس، وصارت (الولايات المتحدة الأمريكية) الراعية الأولى للديمقراطية في الشرق الأوسط، وهي التي بدأت هذه الديمقراطية بتدمير العراق من عام 1991م وصولًا إلى تدمير الدول العربية الأخرى وتفتيتها من خلال أكذوبة مكافحة الإرهاب وتداعيات الربيع العربي، اللذان يعتبران صناعة أمريكية وإسرائيلية لزعزعة الاستقرار الدولي والإقليمي.
أهداف البحث:
– معرفة النشأة التاريخية للاستشراق وظهوره وتعريفاته.
– التعرف على دور الجامعات والمعاهد والمراكز العلمية والبحثية، التي كان لها دور كبير في ظهور الاستشراق ودعم المستشرقين.
– كشف الأهداف الرئيسة للاستشراق نحو الشرق وتشخيصها.
– تحليل وجهة نظر المستشرقين بمختلف آرائهم.
– إبراز الدور المشرف للمفكر العربي إدوارد سعيد الذي فضح توجهات الاستشراق في كل مراحله وتوجهاته وقَيَّمها.
أهمية البحث:
تكمن أهمية هذا البحث في أنه سينقل إلى القارئ جملة من التحليلات والأفكار العلمية ووجهات النظر المختلفة من قبل مجموعة كتبوا عن الاستشراق، وبحسب رغباتهم وتوجهاتهم، لذا تأتي أهمية هذا البحث بأنه سيستعرض كل الأفكار التي ذكرت ويحللها بحيادية حتى نصل إلى نتائج مقنعة نقدمها للقارئ.
مشكلة البحث:
لا يخلو أي بحث من مشكلة. والمشكلة التي صادفتنا هي قلة المراجع الحديثة حول الاستشراق، وأيضا عدم توفر المصادر والمراجع الحديثة والمعاصرة؛ فاتضح لنا أن هناك خمولًا وركودًا في كتابة أبحاث ورسائل علمية معاصرة في هذا الشأن، فكتاب إدوارد سعيد حول الاستشراق والمستشرقين الذي ترجم إلى عدة لغات عالمية، وانتقاداته المتكررة للاستشراق، قد قطعت الطريق أمام الغرب والمستشرقين في مواصلة موضوع الاستشراق نحو الشرق؛ لذا أصبح موضوع الاستشراق قديمًا بالنسبة للغرب طالما قواعدهم وأساطيلهم العسكرية موجودة في المنطقة.
منهجية البحث:
استخدمنا المنهج التاريخي الذي يسرد المراحل التاريخية للاستشراق، واستفدنا أيضا من المنهج الوصفي والتحليلي في وصف مسار المستشرقين وطبيعة توجهات الاستشراق وتحليل المنعطفات التاريخية والأهداف التي رافقت توجهات الاستشراق نحو الشرق.
المبحث الأول: التعريف والنشأة وظهور الاستشراق
المطلب الأول: تعريف الاستشراق:
الاستشراق Orientalisn تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل من يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته، ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة، معبرًا عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما([3]).
وهناك تعريف آخر حول الاستشراق: هو أنه دراسة كافة البنى الثقافية للشرق من وجهة نظر غربية، وتستخدم كلمة الاستشراق أيضًا للتدليل أو التصوير لجانب من الحضارات الشرقية لدى الرواة والفنانين في الغرب. ولكن المعنى الأخير مهمل ونادر استخدامه، والاستخدام الأغلب هو دراسة الشرق في العصر الاستعماري ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
لذلك صارت كلمة الاستشراق تدل على المفهوم السلبي، وتنطوي على التفاسير المضرة والقديمة للحضارات الشرقية والناس الشرقيين، وجهة النظر هذه مبينة في كتاب إدوارد سعيد الاستشراق المنشور سنة 1978م([4]).
المطلب الثاني: نشأة وظهور الاستشراق:
هناك صعوبة في التحديد الدقيق لنشأة وظهور الاستشراق؛ إذ إن بعض المؤرخين يعودون به إلى الدولة الإسلامية في الأندلس، وآخرين إلى أيام الصليبيين، بينما كثيرون يرجعون ذلك إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري، وهناك من يطرح بأن الاستشراق وليد الاحتكاك بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني أيام الصليبيين، عن طريق السفارات والرحلات، ويلاحظ دائما أن هناك تقاربًا وتعاونًا بين الثالوث المدمر: (التنصير، الاستشراق، الاستعمار)([5]).
والحقيقة الأكثر وضوحًا أن ظهور حركة الاستشراق وانطلاقها جاءت بباعث ديني يهدف إلى خدمة الاستعمار وتسهيل عملية نشر المسيحية.
وهناك رؤية أخرى تقول بأن ازدهار المسيحية والإسلام خلق خلافًا حضاريًّا كبيرًا بين أوروبا المسيحية والشرق وشمال إفريقيا الإسلامي في العصور الوسطى، حيث كان الأوروبيون المسيحيون يرون المسلمين أعداء جهنميين لهم، وكانت معرفة الأوروبيين للحضارات أبعد شرقًا من الشرق الإسلامي، ولكن كان هناك معرفة قليلة للحضارات الهندية والصينية.
فالاستشراق أساسًا يعد حديث الظهور، إلا أن معرفة الشرق وما يتعلق به من أفكار يعود إلى الأزمان الغابرة. أما الزمن الذي بدأ فيه الاستشراق ينمو، فقد كان في القرن الخامس عشر والسادس عشر عبر المساعي التي بذلها الباحثون من إيطاليا وبريطانيا والبرتغال لدراسة الشرق، وكان من بين هؤلاء الباحثين الشاب المبدع (توماس هربرت) الأكثر قدرة ومهارة؛ لكونه استطاع أن يصل إلى السواحل الجنوبية لإيران قادمًا من الهند بالتنسيق مع السفير البريطاني آنذاك، فركزت أبحاثه حول إيران والإيرانيين في القرن السابع عشر والثامن عشر، ومن هنا أخذ الاستشراق بالانتشار في أوروبا في تلك الفترة؛لكون أوروبا قد دخلت في عصر النهضة وتطورت العلوم فيها؛ بعد أن تخلصت من سيطرة الكنيسة التي كانت تحرم ابتكارات العلماء ونظرياتهم إذا لم يأتِ ذلك بموافقتها([6]).
ولكن هناك من يعيدنا إلى بداية الاستشراق اللاهوتي بشكل رسمي، حينما صدر قرار مجمع فيينّا الكنسي عام 1312م؛ وذلك بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية.
ولكن لم يظهر مفهوم الاستشراق Orientalism في أوروبا إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، فقد ظهر أولًا في إنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا عام 1799م كما أدرج في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م، وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي أصبحت مدينتا لندن وباريس من أهم المراكز الرئيسة في تدريس الاستشراق، فضلًا عن ذلك فهناك خمس جامعات أوروبية تبنت دراسة الاستشراق وهي: جامعة باريس، جامعة أكسفورد، وجامعة بولونيا بإيطاليا، وجامعة سلمنكا بإسبانيا، فضلًا عن جامعة البابوية في روما.
كما قام المستشرقون بدراسات متعددة عن الإسلام واللغة العربية والمجتمعات المسلمة، ووظفوا خلفياتهم الثقافية وتدريبهم البحثي لدراسة الحضارة الإسلامية والتعرف على خباياها لتحقيق أغراض الغرب الاستعمارية والتنصيرية.
وقد اهتم عدد من المستشرقين اهتمامًا حقيقيًّا بالحضارة الإسلامية وحاولوا أن يتعاملوا معها بموضوعية، فنجح عدد قليل منهم في هذا المجال، ولكن حتى هؤلاء الذين حاولوا أن ينصفوا الإسلام وكتابه ورسوله، لم يستطيعوا أن ينفكّوا من تأثير ثقافتهم وعقائدهم، فصدر منهم ما لا يقبله المسلم من المغالطات والتحريفات؛ ولهذا يخطئ من يظنهم منصفين([7]).
المطلب الثالث: مراحل الاستشراق وآراء المستشرقين:
مراحل الاستشراق:
ينقسم الاستشراق إلى ثلاث مراحل أساسية، وتتمحور المراحل الثلاث للاستشراق في قضيتين هامتين:
القضية الأولى: هي الجمع والتعريف والربط للاستشراق بالإسلام ومسألة الصراع الديني.
القضية الثانية: هي معرفة العمومية والبحث عن الكليات واستخراج ما يمكن من الدراسات الشرقية باعتبارها إنتاجًا فكريًا يهتم بالشرق عامة. وأهم هذه المراحل:
– المرحلة الأولى: (الدفاع عن الذات).
من خلال الطعن في الإسلام والتقليل من مكانته في حياة الناس من قِبَل رجال الكنيسة باستخدام السلاح الديني، وامتدت هذه المرحلة طيلة العصور الوسطى.
– المرحلة الثانية: (بناء الذات).
عن طريق دعم حركة التأليف والترجمة في كل الموضوعات التي تخدم المصالح الغربية، باستخدام السلاح الثقافي، وهذه المرحلة من القرن 14م حتى نهاية القرن 17م.
– المرحلة الثالثة: (الهجوم، ومركزة الذات).
عن طريق الاستعمار والتحكم بالتوجه الثقافي والاقتصادي والسياسي، باستخدام سلاح الغزو الأوروبي العسكري، وتشمل هذه المرحلة من القرن 19م حتى القرن20م([8]). وما تعيشه المنطقة العربية حاليًّا في القرن 21 هو امتداد لهذه المرحلة.
– مستشرقون يتصفون بالحيادية ولا يتصف كلهم بالإنصاف:
برزت بعض الشخصيات من المستشرقين في مجالات مختلفة، وهم:
1- هاردريان ريلاند: ت 1718 Hardrian Roland أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترشت بهولندا، له كتاب الديانة المحمدية في جزأين باللغة اللاتينية سنة 1705م، لكن الكنسية في أوروبا وضعت كتابه في قائمة الكتب المحرم تداولها.
2- يوهان ج. رايسكه: 1716-1774م J.J. reiske وهو مستشرق ألماني، اتهم بالزندقة لموقفه الإيجابي من الإسلام، عاش بائسًا ومات مسلولًا، وإليه يرجع الفضل في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية بألمانيا.
3- سلفستر دي ساسي: ت 1838م Silvestre de Saucy اهتم بالأدب والنحو مبتعدًا عن الخوض في الدراسات الإسلامية، وإليه يرجع الفضل في جعل باريس مركزًا للدراسات العربية، وكان ممن اتصل به رفاعة الطهطاوي.
4- توماس أرنولد: 1864- 1930م إنجليزي، له الدعوة إلى الإسلام الذي نقل إلى التركية والأردية والعربية.
5- غوستاف لوبون: مستشرق وفيلسوف مادي لا يؤمن بالأديان مطلقا، جاءت أبحاثه وكتبه الكثيرة متسمة بإنصاف الحضارة الإسلامية. ولديه مقولة يعترف فيها أن مؤرخي العرب كان يعوزهم النقد، وأن مهارة النقد قد ظهرت عند ابن خلدون بدرجة عالية؛ هذا مما دفع الغربيين إلى إهماله وعدم تقديره.
6- زيجريد هونكه: اتسمت كتابتها بالإنصاف، وذلك بإبرازها تأثير الحضارة العربية على الغرب في مؤلفها الشهير شمس العرب تسطع على الغرب([9]).
7- إرنست رينان: Ernest Renan (1823- 1892) مستشرق فرنسي اهتم بدراسة التاريخ بشكل عام، وهو صاحب الرأي الذي عبّر عنه في محاضرته التي ألقاها في جامعة السربون سنة 1883م تحت عنوان (الإسلام والعلم) وحيث قال في هذه المحاضرة: إن ما يميز المسلم هو كراهيته للعلم والاقتناع بأن البحث فيه لا جدوى منه([10]).
والحقيقة بأن المستشرق الفرنسي (رينان) قد أخفق في رأيه، إذ تناسى الكم الهائل من الكتب والدراسات والمخطوطات والوثائق التاريخية والموسوعات الرائعة التي تركها لنا مؤرخون مسلمون لم تمنعهم عقيدتهم عن دراسة التاريخ والإبداع فيه، عبر كل المراحل التاريخية.
– مستشرقون متعصبون لآرائهم:
1- جولد زيهر: 1850- 1920م Goidizger، مجري يهودي، من كتبه تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي والعقيدة والشريعة. ولقد أصبح زعيم الدراسات الإسلاميات في أوروبا بلا منازع.
2- جون ماينارد J:.Maynard. أمريكي، متعصب، من محرري مجلة الدراسات الإسلامية.
3- ص م. زويمر: S.M. Zweimer مستشرق مبشر، مؤسس مجلة العالم الإسلامي الأمريكية، له كتاب الإسلام صدر 1908م، وله كتاب آخر الإسلام عبارة عن مقالات قدمت للمؤتمر التبشيري الثاني سنة 1991م.
4- غ. فون. غرونباوم: G.Von Grunabaum ألماني يهودي، درس في جامعات أمريكا، له كتاب الأعياد المحمدية 1951م ودراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية 1954م.
5- هنري لامنس اليسوعي: 1872-1937م H. Lammans فرنسي متعصب، له كتاب عن الإسلام وكتاب الطائف من محرري دائرة المعارف الإسلامية.
6- جوزيف شاخت: j.schacht ألماني متعصب ضد الإسلام له كتاب أصول الفقه الإسلامي.
7- كلود كاهن: Claude Cohen 1909 – 1991م، أحد أكبر المؤرخين والمستشرقين، وهو متخصص في تاريخ العصور الوسطى الإسلامية، وله عدة كتب منها كتاب الشرق والغرب في زمن الحروب الصليبية([11]).
المبحث الثاني: توجه النفوذ الغربي إلى تعميق أهداف حركة الاستشراق باتجاه الشرق
المطلب الأول: أهداف الاستشراق:
أولًا: الهدف الديني
هو الهدف الرئيس والمهم من وراء توسع ظاهرة الاستشراق، ويقوم بتزييف الحقائق من خلال الآتي:
1- يروجون على التشكيك في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ويزعمون بأن الحديث النبوي إنما هو من عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى؛ والهدف الخبيث من وراء ذلك هو محاربة الإسلام وإسقاطه حتى يفقد المسلمون الصورة التطبيقية الحقيقية لأحكام الإسلام وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- العمل على تشويه القرآن الكريم والطعن فيه، بهدف قطع الطريق على التقاء وحدة المسلمين وتقاربهم على هدف واحد هو (الدين الإسلامي)([12]).
3- التقليل من قيمة الفقه الإسلامي واعتباره مستمدًّا من الفقه الروماني.
4- التنقيص من مكانة اللغة العربية التي ينطقها أكثر من مليار شخص على الكرة الأرضية، ومحاولة النيل منها واستبعادها من مواكبة دورها التاريخي والحضاري في إبراز التطورات المتسارعة في كل المجالات، مع كونها من أقدم اللغات، ومن ضمن أربع لغات رسمية معترف بها في الأمم المتحدة.
5- إنكار حقيقة الإسلام وإرجاعه إلى مصادر يهودية ونصرانية، بدلًا من إرجاع التشابه بين الإسلام وهاتين الديانتين إلى وحدة المصدر.
6- العمل على تنصير المسلمين من خلال الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والأخبار غير الحقيقية عن الإسلام في سبيل تدعيم آرائهم، وبناء نظرياتهم التي تجحف بمصداقية الإسلام والمسلمين.
فالهدف الديني في الاستشراق يعد البعد الاستراتيجي في شن حملة التشويه ضد الإسلام في أوروبا بعد أن عجزت الحملات والحروب الصليبية من القضاء عليه في العصور الوسطى([13]).
ثانيًا: الهدف التجاري
لقد كانت المؤسسات والشركات الكبرى والملوك يدفعون المال الوفير للباحثين، من أجل معرفة البلاد الإسلامية وكتابة تقارير عنها، وقد كان ذلك جليًّا في عصر ما قبل الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين([14]).
وفي وقتنا الحاضر تمارس الشركات الكبرى الاستحواذ على ثروة العالم العربي والإسلامي، وتوظيفها لخدمة مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام في الغرب بهدف تشويه الدين الإسلامي وتأجيج الصراعات المذهبية والطائفية من خلال كتابتهم التي تروج لمصالحهم.
ثالثًا: الهدف السياسي
1- إضعاف روح الإخاء بين المسلمين والعمل على فرقتهم لإحكام السيطرة عليهم.
2- العناية باللهجات العامية ودراسة العادات السائدة لتمزيق وحدة المجتمعات المسلمة.
3- كانوا يوجهون موظفيهم الذين يعملون في المستعمرات لتعلُّم لغات تلك البلدان ودراسة آدابها ودياناتها حتى يسهل لهم توظيف سياستهم التي تعمل على تدمير تلك الدول.
4- أكثر الاحتمالات بأن حركة المستشرقين يرافقها العنصر الاستخباراتي، إذا لم يكن أكثر المستشرقين منتسبين للأجهزة الاستخباراتية التي تمكنهم من معرفة حالة المسلمين وكيفية مقاومة انتشار الإسلام.
رابعًا: الهدف العلمي
هناك بعض المستشرقين حاولوا أن يتجهوا إلى البحث العلمي، بهدف المعرفة الحقيقة الكاملة عن الإسلام والمسلمين، ومعرفة المكانة التاريخية للحضارة العربية – الإسلامية، ودور العلماء العرب والمسلمين الذين استرشدت أوروبا بنظرياتهم بمختلف العلوم. وهناك من المستشرقين من دخل الإسلام بقناعته المطلقة مثل:
– اتوماس أرنولد: الذي أنصف المسلمين في كتابه الدعوة إلى الإسلام.
– رينيه: مستشرق فرنسي، أسلم وعاش في الجزائر وله كتاب (أشعة خاصة بنور الإسلام) وتوفي في فرنسا ولكنه دفن في الجزائر([15]).
أما في الوقت الحاضر فأكثر مراكز الأبحاث العلمية على مستوى العالم يسيطر عليها اليهود بحكم تمويلهم لتلك المراكز التي توجه من خلالهم لخدمة مصالحهم أينما وجدت.
المطلب الثاني: المؤتمرات والجمعيات والمجلات التي رافقت توجهات المستشرقين:
– المؤتمرات حول الاستشراق:
عقد أول مؤتمر دولي حول الاستشراق بحضور كبير من المستشرقين وكان في باريس سنة 1873م.
كما استمرت مسألة عقد المؤتمرات حول الاستشراق حتى بلغت أكثر من ثلاثين مؤتمرًا دوليًا، فضلًا عن الندوات واللقاءات الإقليمية المتعددة والخاصة بكل دولة من الدول، مثل مؤتمر المستشرقين الألمان الذي عقد في مدينة درسدن بألمانيا سنة 1849م. وما زالت فعاليات عقد المؤتمرات حول الاستشراق متواصلة حتى يومنا هذا. إذ حضر هذه المؤتمرات مئات من العلماء المستشرقين من جميع أنحاء العالم، فقد حضر مؤتمر أكسفورد تسعمائة عالم من خمس وعشرين دولة ومن ثمانين جامعة ومن تسع وستين جمعية علمية([16]).
– بعض الجمعيات التي تأسست لخدمة الاستشراق ودعمه، مثل:
1- الجمعية الآسيوية التي تأسست في باريس سنة 1822م.
2- الجمعية الملكية الآسيوية في بريطانيا وإيرلندا التي تأسست سنة 1823م.
3- الجمعية الشرقية الأمريكية التي تأسست سنة 1842م.
4- الجمعية الشرقية الألمانية التي تأسست سنة 1845م([17]).
– المجلات التي روجت لحركة الاستشراق:
تمكن المستشرقون من إنتاج عدد كبير من المجلات والدوريات التي تنشر وتحلل كل القضايا التي تخدم حركة الاستشراق وتوسعها باتجاه الشرق، عبر تلك المجلات والدوريات التي وصل عددها إلى ما يقارب ثلاثمائة مجلة متنوعة، بمختلف اللغات، ونذكر بعضًا منها:
1- مجلة العالم الإسلامي: The Muslim world أنشأها صمويل زويمر سنة 1911م في بريطانية، وتوفي 1952م، وقد كان زويمر يعد رئيس المبشرين في الشرق الأوسط.
2- مجلة عالم الإسلام: Mir Islam، ظهرت هذه المجلة في بطرسبرج في روسيا سنة 1912م ولكنها لم تستمر طويلًا.
3- مجلة ينابيع الشرق: التي أصدرها (هامر برجشتال) في فيينا من سنة 1809 إلى 1818م.
4- مجلة الإسلام: ظهرت هذه المجلة في باريس سنة 1895م، ومن ثم خلفتها سنة 1906 مجلة العالم الإسلامي التي صدرت عن البعثة العلمية الفرنسية في المغرب، وتحولت بعد ذلك إلى مجلة الدراسات الإسلامية.
المطلب الثالث: المستشرقون الذين وظفوا الاستشراق في خدمة الاستعمار:
– كارل هنيريش بيكر:.Karl Heinrich Beaker توفي سنة 1933م، مؤسس مجلة الإسلام الألمانية، قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية في إفريقيا.
– بار تولد: Bar told، توفي سنة 1930م مؤسس مجلة عالم الإسلام الروسية، قام بعدة أبحاث تخدم مصالح السيادة الروسية في آسيا الوسطى.
– سنوك هرجرونجه: هولندي، 1857- 1936م. Snouck Hurgonje م قدِم إلى مكة عام 1884م تحت اسم عبد الغفار، ومكث فيها لمدة نصف عام، وعاد ليكتب تقارير تخدم الاستعمار في المشرق الإسلامي، وسبق له أن أقام في جاوة في إندونيسيا لمدة 17 سنة، وقد وثقت وصدرت الصور التي أخذها لمكة والأماكن المقدسة في كتاب بمناسبة مرور مائة سنة على تصويرها.
– معهد اللغات الشرقية بباريس: تأسس سنة 1885م وكانت مهمته الحصول على معلومات عن البلدان الشرقية وبلدان الشرق الأقصى، مما يشكل أرضية تسهل عملية الاستعمار في تلك المناطق([18]).
– أومسبي غو: كان وزيرًا للمستعمرات البريطانية، وعندما قدّم تقريره لرئيس الحكومة البريطانية في 9 يناير سنة 1938م، قال في تقريره: “إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الإمبراطورية وحدها بل على فرنسا أيضًا، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة، وأتمنى أن تكون إلى غير رجعه“([19]).
وهكذا نرى أن مثل هؤلاء المستشرقين يشكلون جزءًا من مخطط رسمت ملامحه منذ زمن بعيد، تمثل بالحملات الصليبية التي كانت تحرض عليها الكنيسة بالتوجه نحو الشرق، وبالدعم اليهودي والصهيوني المنظم لمحاربة الإسلام والمسلمين في كل مكان. وهناك كثيرون يصعب عليهم فهم حقيقتهم، إلا عندما يراهم من قرب في إطار ذلك المخطط الذي يهدف إلى تخرج أجيال لا تعرف الإسلام، أو لا تعرف من الإسلام إلا الشبهات، وقد انتقوا أفرادًا من هذه الأجيال لتتبوأ أعلى المناصب ومراكز القيادة لخدمة الاستعمار؛ فالصهاينة يتلخص دورهم الأكبر في تفتيت المجتمعات أخلاقيا واجتماعيا وثقافيا، وهدم حضارة الشعوب الشرقية التي تملك مقومات الحضارات والثقافات العريقة في العالم([20]).
المبحث الثالث: إدوارد سعيد؛ المفكر العربي والناقد والمحلل الأكاديمي للاستشراق في كل توجهاته
المطلب الأول: إدوارد سعيد، تشخيصه لطبيعة العلاقات بين الشرق والغرب:
إدوارد سعيد: فلسطيني الأصل، من مواليد 1 نوفمبر 1935م في القدس، توفي في 25 سبتمبر عام 2003م في أمريكا، ودفن في لبنان بحسب وصيته، عُرف إدوارد سعيد منظِّرًا أدبيًّا فلسطينيًا، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة الإنجليزية والأدب المقارن من أمريكا، ويحمل الجنسية الأمريكية، وعمل أستاذا في جامعة كولومبيا في أمريكا، وعُرف مدافعًا عن حقوق الإنسان والشعب الفلسطيني، وإدوارد سعيد من الشخصيات المؤثرة في النقد الحضاري والأدبي، وله العديد من المؤلفات([21]).
وقد نال شهرة واسعة بعد تأليف كتابه عن الاستشراق عام 1978م، إذ قدم كل أفكاره المؤثرة عن دراسات الاستشراق الغربية المتخصصة في دراسة حضارة الشرقيين وثقافتهم، كما ربط دراسة الاستشراق بالمجتمعات الإمبريالية؛ موضحًا في ذلك أن أعمال الاستشراق تحولت إلى أعمال سياسية من قبل الغرب نحو الشرق، واعتبر أن الدراسات الغربية للشرق تقع في موقع الشك ولا يمكن الأخذ بها على الإطلاق([22]).
وتجسدت رؤية إدوارد سعيد حول تشخيص العلاقة بين الغرب والشرق، في كونها علاقة يمكن تتويجها بمفهوم القوة والسيطرة بصورة معقدة ومتشابكة وفق المعطيات التاريخية.
فيؤكد إدوارد سعيد أن الاستشراق ليس عنصرًا من عناصر الثقافة السياسية الحديثة، بقدر ما هو العنصر الأوحد فيها، وهذا المنعطف أو المنحنى كما اتضح لنا جميعًا، هو السبب الحقيقي الذي دفع إدوارد سعيد إلى التعمق في التفكير بالاستشراق بوصفه مسألة حيوية يتناولها الأشخاص مؤلفين وباحثين، والمؤسسات السياسية التي كانت نتاج للدول الثلاث التي أنتجت الاستشراق بصورته الحرفية وبحدودها الفكرية، والمتصفة بالإمبريالية والاستعمار والهيمنة، وهي: بريطانيا وفرنسا وأمريكا، بحسب وصف إدوارد سعيد([23])؛ وحدد إدوارد سعيد تلك الدول الثلاث لأنها أكثر الدول التي استعمرت العالم في التاريخ الحديث والمعاصر، وهي المتزعمة للنظام الامبريالي الرأسمالي الذي دخل في صراع مع النظام الاشتراكي من بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1985م، عندما وصل ميخائيل جورباتشوف إلى رئاسة الاتحاد السوفيتي أمينًا عامًّا للحزب الشيوعي السوفيتي، وهو صاحب كتاب نظرية البروسترويكا (إعادة البناء).
وهذه النظرية كانت في مضمونها إصلاحًا وتطويرًا للنظام الاشتراكي من الجمود الذي رافقه منذ قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى 1917م، حتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين، وتغييرًا للنظام العالمي بما يواكب الحداثة والتقارب بين النظامين بهدف إنهاء سباق التسلح والانتقال إلى الشراكة الدولية لإحلال السلام العالمي لمصلحة البشرية عمومًا. ولكن الذي حدث هو أن الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية انهارت وتساقطت وتفكك الاتحاد السوفيتي من الداخل عام 1991م بإيعاز من بوريس يلتسن الذي كان رئيسًا لروسيا الاتحادية من عام 1991 إلى 31 ديسمبر 1999م([24]).
لقد تعمق إدوارد سعيد في فهم الصورة الحقيقية للاستشراق وترسيخها تجاه العرب والمسلمين، بعد أن تأكد له بأن الاهتمام بالاستشراق من قِبل الغرب، يصب في الشرق الأوسط دون غيره؛ لاعتبارات لها علاقة بالأديان والحضارات المتعاقبة على المنطقة، بما في ذلك الجانب الاقتصادي المرتبط باكتشاف الثروة النفطية وتراكم الوفرة المالية، معللًا ذلك بقوله: “إن التاريخ الاستعماري للمنطقة والهيمنة السياسية والعسكرية على الشرق، كانت سببًا في تشويه كتابات المستشرقين الذين تعمقت معرفتهم بالشرق جيدًا ودرسوا ثقافة وحضارته”. وعلى هذا الأساس يرفض إدوارد سعيد رفضًا قاطعًا بأن يوصف الشرق بالمتخلف من قبل الغرب. وعلى ضوء ذلك تعرض إدوارد سعيد لعدة انتقادات من المستشرقين الغربيين والعرب على مواقفه وانتقاداته لحركة الاستشراق التي تخدم مصالح الغرب([25]).
المطلب الثاني: إدوارد سعيد؛ تقييمه للاستشراق بوصفه استعمارًا بتبعية ثقافية للغرب:
هناك بعض الآراء التي تُطرح من قِبل المهتمين بظاهرة الاستشراق، ولا تختلف مع رؤية إدوارد سعيد من حيث تقييمه للاستشراق بوصفه استعمارًا وتبعية ثقافة للغرب، وهذا ما اكتشفه إدوارد سعيد لدى المستشرقين الذين عملوا على تحريف الإسلام وتاريخه والنيل من الثقافة العربية. كما تميز عمن سبقه وعاصره في انتقاد ومحاربة الاستشراق، مثل: طه حسين والشيخ محمود محمد شاكر ولويس عوض وتوفيق الحكيم ومحمد مندور، وهؤلاء هتفوا ورددوا ثلاثية (الاستعمار- الاستشراق – التبشير). وهذا ما يوصلنا إلى الاستنتاجات التي بنى عليها إدوارد سعيد تقييمه للاستشراق على النحو الآتي:
1- طبيعة المنهجية البحثية التي نظر فيها إدوارد سعيد إلى الاستشراق وإتقانه للغة الإنجليزية والفرنسية أيضًا، مكنته من معرفة توصيف الأشياء عند المستشرقين، وكيف استطاع أن يعمل على تفتيت منظومتها وتفكيك عناصرها لتصبح مفهومة القصد والمعنى.
2- تسويق أو صياغة النص الاستشراقي بالنظرة الغربية لم تمرر أو تفوت على إدوارد سعيد بحكم معرفته بالثقافة الغربية وانتمائه الشرقي، فضلًا عن خلفيته الماركسية وإتقانه للغة الإنجليزية بمستوىً عالٍ، مكنته من فهم النص وتوجيه الخطاب الذي فكك مفاهيم الثقافة الغربية، مستوعبًا في الوقت نفسه أساليب الخطاب المسيطر على الشرق جغرافيًا وبشريًا، وحتى من الناحية السياسية والاجتماعية والعسكرية والعقائدية، وصولًا إلى السيطرة العلمية والتقنية الحديثة في وقتنا الحاضر([26]).
3- يؤكد إدوارد سعيد أن الغرب لا يمتلك معرفة حقيقة حول الشرق، موضحًا مفهوم الاستشراق بأنه تصور غربي للشرق بهدف السيطرة عليه.
4- لقد أصاب إدوارد سعيد عندما تعمق في الجذور التاريخية والحضارية لوصف الشرق بالروحانية كونها جوهرية ينفرد فيها الشرق على الرغم من عقلانية الغرب المزعومة. فهو يقول بأن الشرق الإسلامي، روحاني، سامي، قبلي، وأن الفرق بين الشرق والغرب هو الفرق بين الحداثة والتراث القديم، أي أنه يعبر عن الأصالة والمصطنع المتمثل بوجود الغرب، من هنا اتضح بأن إدوارد سعيد يريد إيصال مفهوم رسالته إلى الجميع، وهي: أن روحانية الشرق، وبخاصة الأوسط كونها نابعة من جوهر الأديان السماوية التي انطلقت منه، وانتشرت إلى جميع الأماكن البائسة التي لم يكن لها أي وجود ثقافي أو حضاري، مقارنة بما يملكه الشرق من مخزون ثقافي وحضاري عبر العصور التاريخية([27]).
المطلب الثالث- إدوارد سعيد؛ منظِّر ومحلل أكاديمي لمراحل الاستشراق وما بعد الاستشراق:
امتاز المنظر الأكاديمي إدوارد سعيد عن غيره من منتقدي الاستشراق والمستشرقين من خلال تحليله للخطاب الأوروبي حول الشرق، ولكن برؤية أكثر تحضرًا لأنه ركز مضمون الخطاب وجدليته على حقول المعرفة المتصلة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والاستعمارية، وما بعد الاستعمارية، حيث أكد من خلال دراسته المستفيضة للخطاب الأوروبي البريطاني والفرنسي منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين لكونهما دولتين غزتا الشرق ليس ثقافيًا بل عسكريًا أيضًا، وقال إن ما أنتجه المستشرقون من دراسات نحو الشرق يدخل ضمن المعطيات التي ذُكرتْ؛ إذ إن إدوارد سعيد قد صنف الاستشراق بثلاث أطروحات ليست بعيدة عن بعضها رغم الاختلاف في الجوهر والالتقاء في الخطاب، وهي:
1- الاستشراق الأكاديمي الذي يدرس الشرق بكل مراحله وسماته العامة والخاصة.
2- الاستشراق الفكري المستند إلى التميز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب.
3- الاستشراق الأسلوبي الغربي للسيطرة على الشرق وإعادة هيكلته من خلال امتلاك السلطة والتسلط.
وكل هذه الأطروحات الثلاث التي تميز في طرحها إدوارد سعيد لا يختلف عليها أحد، مع العلم بأن إدوارد سعيد قد صنف المستشرقين أيضًا إلى ثلاثة أنواع:
– النوع الأول: هم الذين ذهبوا إلى الشرق لدراسته بصورة احترافية وعلمية، مثل: عالم الآثار البريطاني (إدوارد وليام لين) الذي كتب عن المصريين وعاداتهم وأنماط حياتهم.
– النوع الثاني: هم الكتّاب الذين يبحثون عن اكتشاف المشرق بحواضره وثقافته وعلميته، ولكن اهتماماتهم الفردية هي التي تسيطر في النهاية على عملهم وإنجازاتهم، ومنهم الرحالة البريطاني والعالم اللغوي (ريتشارد بيرتن) صاحب كتاب الحج إلى المدينة ومكة.
– النوع الثالث: هو الكاتب الذي يستشرق لإرضاء رغباته، ويمثّلهم الرحالة والرسام والشاعر الفرنسي (جيرا ردي نرفال) صاحب كتاب رحلة إلى الشرق([28]).
المطلب الرابع: هجمة الغرب الشرسة ضد إدوارد سعيد:
لقد أثبتت حقيقة الانتقادات التي كان يطرحها إدوارد سعيد حول الاستشراق والمستشرقين الذين تعاملوا مع الشرق بطريقة مذلة ومنقوصة من قبل المستشرقين الغربيين، وهناك من هاجم إدوارد ووصف كتابه للاستشراق بالمخزي في العلم الأكاديمي، مثل: مكسيم رودنسون وجاك بيرك ووليم منتغمري واط؛ فضلًا عن المستشرق الأكثر تشددًا نحو المنطقة العربية والإسلامية، الذي جمع العديد من المستشرقين الذين أضروا بالمنطقة العربية، ومنهم ألبرت حوراني، وروبرت إيروين، ونيكي كدي، وإعجاز أحمد، وكنعان مكية، حيث إن هؤلاء وصفوا إدوارد سعيد بأنه ركز على العنصرية والعداء في انتقاده لتوجهاتهم غير المعرفية بحضارة الشرق والعرب.
كما أراد إدوارد سعيد بأن يذكِّر هؤلاء المستشرقين بالاضطهاد الذي مارسه الاستعمار الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط، وكيف يقبل بطرحهم؟ وهو ابن فلسطين الذي عايش القتل والتشريد في طفولته من قِبل اليهود الصهاينة المحتلين لفلسطين العربية([29]).
والأكثر برهانًا في طرح إدوارد سعيد هي مجريات الأحداث التي عاصرتها المنطقة في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، والتي تعبر عن توجهات الاستشراق نحو المنطقة، كما حدث في العراق وأفغانستان وباكستان، وهذا ما تؤيده الدول الأوروبية، عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وبحسب ما تقتضيه الرؤية الأمريكية المعروفة (بالفوضى الخلاقة) التي أتضحت نواياها من خلال الربيع العربي الذي جاءت تسميته من الغرب، وأصبح يعرف لدى عامة الناس في الوطن العربي بالربيع الطائفي الذي دمر تلك الدول من عام 1991م و حتى يومنا هذا.
وهناك من المستشرقين الذين أدوا أدورًا في تفتيت المنطقة، مثل: كنعان مكية، كان له دور في تفتيت العراق، وبرنارد لويس الذي قام بالدور نفسه في تفتيت ليبيا وسورية أيضًا([30]).
وهذه هي خلاصة لرؤية المنظر والمفكر الأكاديمي إدوارد سعيد ما بعد الاستشراق والاستعمار، من خلال الأحداث الأخيرة التي شهدها الشرق الأوسط، وعايش إدوارد سعيد الحرب على العراق عام 2003م. محللًا العداء الغربي للصين ومؤكدًا في كل أطروحاته التدخل البريطاني الفرنسي لعرقلة الاستقرار في المنطقة، وهذا يجسد مفهوم ما بعد الاستشراق والاستعمار، بالهيمنة الغربية والأمريكية والصهيونية على الشرق الأوسط.
نتائج البحث:
توصلنا من خلال هذا البحث إلى النتائج الآتية:
– أن حركة الاستشراق قد مثّلت في مضمونها وتوسعاتها، أهدافًا عديدة، وتمثل ذلك بالطابع الديني والتجاري والسياسي، وبما في ذلك العلمي، والجميع يعرف كيف كانت أوروبا في العصور الوسطى مدمرة؛ نتيجة الحروب والصراعات الدينية، وكيف استفادت من العلماء العرب والمسلمين، ومنهم الرازي وابن سينا والفارابي وابن خلدون وغيرهم من العلماء الذين طوروا أوروبا وانتقلت عبر مؤلفاتهم إلى عصر النهضة، ومن هنا بدأ الأوروبيون إرسال المستشرقين إلى الشرق لمعرفة طبيعة تطور العلوم والتركيز على استقطاب العلماء إلى أوروبا.
– أنه عندما بدأ الاستعمار الأوروبي غزو الشرق أرسل الجواسيس على أساس أنهم مستشرقون.
– أن المستشرقين كانوا يركزون في أبحاثهم على الخلافات المذهبية والصراعات العرقية التي حدثت قبل عدة قرون في الشرق وإنعاشها من جديد، وما يحدث في المنطقة العربية والإسلامية حاليا برهان على ذلك.
– أن أكثر المستشرقين الذين عملوا في المنطقة العربية الإسلامية يهود.
– أن المستشرقين اليهود لهم دور كبير في تشويه الحضارة العربية والإسلامية وتهميش اللغة العربية والترويج للغة المستعمر وإضعاف الهوية والقومية العربية بعد مغادرة الاستعمار للمنطقة العربية في منتصف القرن العشرين.
– أن المستشرقين بعد المعرفة الكاملة بوضع المنطقة العربية، سهلوا في أطروحاتهم البحثية المناخ المناسب لفتح الجامعات الأوروبية والأمريكية في المنطقة العربية؛ وهذا دليل على إضعاف الجامعات العربية في مخرجاتها، فلا تقبل شهاداتها قبل شهادات جامعاتهم على مستوى العالم.
– أن المستشرقين هم رجال استخبارات وخبراء في مختلف العلوم توجهوا نحو المنطقة لمعرفة ما تحتها من ثروة وما فوقها من تناقضات وصراعات، وأيضا عملوا على إشعال المنطقة بالفتن والحروب حتى لا يصبح المال العربي مسخرًا للعلم والتكنولوجيا وتطوير المنطقة بمختلف المجالات.
– أنه في نهاية القرن العشرين ضعف دور الاستشراق وأصبح منتهي المهمة، لكون القواعد والأساطيل الأمريكية والأوروبية موجودة في المنطقة تنفذ ما تريد بحرّية مطلقة.
([1]) أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المشارك – جامعتي عمران وعدن.
([2]) أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد – جامعة عدن.
[3] إدوارد سعيد: كتاب الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981م، ص27.
[4] المرجع نفسه، ص33.
[5] محمد جاسم الموسوعي: الاستشراق في الفكر العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1993م، ص 111.
[6] مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون، المكتب الإسلامي، ط 2، بيروت، 1979م، ص 42.
[7] نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الأول، دار المعارف، ط4، القاهرة، 1980م ص 158.
[8] ينظر إلى المصدر http://www.goloob.com/reponses.php?ques=266020
[9] سهام محمد عبدالعظيم، (صورة المؤرخين في الدراسات الاسلامية)، أنسنت رينان- مرغوليوث – لويس برنارد – كلود كاهان)، دور العلماء المسلمين في خدمة الحضارة الإنسانية، المؤتمر السادس جامعة قناة السويس، الجزء1، من 3 – 5 مارس 2014م، ص597.
[10] المرجع نفسه، ص598.
[11] سهام محمد عبدالعظيم، (صورة المؤرخين في الدراسات الاسلامية)، المرجع السابق، ص605.
[12] جعفر شيخ إدريس، منهج مونتغمري واط في دراسة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الجزء الأول، طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، 1985م، ص11، 12.
[13] نجيب العقيق، مرجع سابق، ص55.
[14] ناديا انجليسو، الاستشراق والحوار الثقافي، منشورات دائرة الثقافة والاعلام، الشارقة، الامارات العربية، 1999م، ص29.
[15] ناديا انجليسو، الاستشراق والحوار الثقافي، مرجع سبق ذكره، ص31.
[16] محسن جاسم الموسوي، مرجع سابق ص46.
[17] ينظر المصدر على الموقع: http://www.jazan.org/vb/showthread.php?t=97980
[18] نعمة شومان، الصهيونية والعولمة حروب ضد الشعوب، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 122، بيروت، ربيع 2006م، ص151 – 152.
[19] محمد سالمان: الأديان المعاصرة، موقع منتدى التداول العربي. 24/9/2012م. form.arabictrader.com/t154252.html
[20] نعيمة شومان، مرجع سابق، ص153.
[21] صبحي حديدي، مقدم كتاب إدوارد سعيد ومترجمه، تعقيبات على الاستشراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1996م، ص158.
[22] محمد السلمان، مرجع سابق.
[23] هيثم غالب الناهي/ إدوارد سعيد: ما بين استشراق الاستشراق وما بعد الاستشراق، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، السنة 37، العدد 426، بيروت، أغسطس، 2014م، ص55.
[24] إسكندر محمد النيسي: المتغيرات الجديدة في روسيا المعاصرة، بقيادة بوتين – ميدفيدف – بوتين، 2000 – 2014م، مجلة جامعة الملكة أروى، العدد الرابع عشر، يناير – يونيو، 2015م، ص23.
[25] هيثم غالب الناهي، مرجع سابق، ص56.
[26] هيثم غالب الناهي/ إدوارد سعيد: ما بين استشراق الاستشراق وما بعد الاستشراق، مرجع سبق ذكره، ص58.
[27] المرجع السابق، ص59.
[28] هيثم غالب الناهي/ إدوارد سعيد: ما بين استشراق الاستشراق وما بعد الاستشراق، مرجع سبق ذكره، ص60 – 61.
[29] المرجع السابق، ص64-69.
[30] إدوارد سعيد: تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 1996م، ص47.
مراجع البحث باللغة العربية:
– إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1981م.
– نجيب العقيقي: المستشرقون، دار المعارف، الجزء الأول، ط 4، القاهرة، 1981م.
– مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون، المكتب الإسلامي، ط 2، بيروت، 1979م.
– هشام جعيط: أوروبا والإسلام، ترجمة طلال عتريسي، دار الحقيقة، بيروت، 1980م.
– ناديا أنجيليسكو: الاستشراق والحوار الثقافي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة الإمارات العربية المتحدة، 1999م.
– جور جسار طون: الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط، ترجمة عمر فروخ، ط 1، مكتبة المعارف، بيروت 1952م.
– محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ط 1، كتاب الأمة، 1404هـ – 1984م.
– محسن جاسم الموسوي: الاستشراق في الفكر العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط 1، بيروت 1993م.
– محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، دار الفكر، بيروت 1973م.
– محمود حمدي زقزوق: الإسلام في الفكر الغربي، دار القلم، الكويت 1981م.
– رودي بارت: الدراسات الإسلامية بالعربية في الجامعات الألمانية، ترجمة مصطفى ماهر، القاهرة 1967م.
– عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981م.
– محمد عبد الفتاح عليان: أضواء على الاستشراق، ط 1، دار البحوث العلمية، الكويت، 1980م.
– التهامي نقرة وآخرون: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، مطبعة التربية العربي لدول الخليج، الجزء الأول، الرياض، 1405ه- – 1985م.
– إدوارد سعيد: تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1996م.
– سهام محمد عبد العظيم: صورة المؤرخين المسلمين في الدراسات الاستشراقية (أرنست رينان – مرغوليوث – لويس برنارد – كلود كاهن)، المؤتمر العلمي الدولي السادس، دور العلماء في خدمة الحضارة الإنسانية، الجزء الأول، جامعة قناة السويس الإسماعيلية مصر، من 3 – 5 مارس 2014م.
– جيهان نور الدين محمد المقدم: دور العلماء المسلمين في علم مقارنة الأديان (ابن حزم نموذجًا)، الجزء الثاني، جامعة قناة السويس الإسماعيلية مصر، من 3- 5 مارس 2014م.
– هيثم غالب الناهي: إدوارد سعيد: ما بين استشراق الاستشراق وما بعد الاستشراق، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، السنة 37، العدد 426، بيروت، أغسطس 2014م.
مراجع البحث باللغة الأجنبية: